" الإخوة كارامازوف " / إسلكو ولد أحمد إزيد بيه

أحد, 16/07/2023 - 11:07

1- عموميات

من السلع اللا-مادية ما تزداد قيمته، عندما نتقاسمه مع الآخرين ؛ فتقاسمنا (شفهيا أو كتابيا) لانطباعاتنا بخصوص كتاب قرأناه، يعزز فهمنا لمحتوى هذا الكاتب ولا ينقصه بحرف وقد يشجع بعض القراء، وهذا هو الأهم، على مطالعة هذا الكتاب أو مطالعة كتاب آخر أو اجتياز "روبيكون" الكتابة... لهذه الاعتبارات، غالبا ما أكتب ما جادت به ذاكرتي من انطباعات وملاحظات، مباشرة بعد الانتهاء من قراءة كتاب ما، دون اعتماد منهجية محددة...

على صعيد آخر، لدي قناعة راسخة بأن تطور المجتمعات البشرية بطيئ إلى حد تتيح فيه قراءة الأعمال الأدبية المرجعية، مهما كان قدمها وبغض النظر عن سياقها الثقافي، تسليط ضوء فاحص على الماضي والحاضر في آن واحد، ليس فقط بالنسبة للمجتمعات المعنية ومحيطها المباشر، بل أبعد من ذلك أحيانا ؛ فالثابت لدى هذه المجتمعات يغلب المتغير، والمشترك معها ليس بالضرورة فارغا بالمطلق. فقراءة نص مرجعي أونصين بخصوص ثقافة معينة، قد تكون كافية إذا، لاكتساب معرفة مقبولة بمقومات هذه الثقافة وهواجسها، وبذلك ندخر وقتا وجهدا ثمينين، في عصر الصخب الدعائي الإعلامي وتضخم التأليف الأيديولوجي...

لقد قررت، منذ بعض الوقت، قراءة رواية "الإخوة كارامازوف" لكاتبها "فيودور دوستويفسكي" ؛ من أجل ذلك، اقتنيت الجزء الثاني من هذه الرواية خلال زيارة لمعرض للكتب القديمة، إلا أنني لم أستسغ قراءة هذا الجزء قبل قراءة الجزء الأول الذي تعذر علي الحصول عليه وقتها. تذكرت مؤخرا هذا المشروع المؤجل، فوجهت طلبا إلى أحد المقربين للحصول على الجزء المذكور، فتفضل علي بترجمة جديدة للرواية المشهورة في مجلد واحد. شرعت في قراءة هذا المجلد إلى أن وصلت بداية "الجزء الثاني" الذي تابعت قراءة النص من خلاله، وذلك للاستفادة من ترجمتين مختلفتين لهذه الرائعة الأدبية. ورغم عدم "التقاطع" بين "القراءتين"، فقد لاحظت جزالة لغوية نسبية للترجمة الثانية مقارنة بالأولى، إضافة إلى تعقيد في الأسلوب واختلاف في كتابة أسماء العلم وفرق في ...نوعية الورق لصالح الترجمة القديمة.

 

2- منوال الرواية 

 

خلال السنوات الأولى من الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، وفي خضم الغليان الفكري والاجتماعي في القارة الأوروبية، عاش "فيودور بافلوفيتش" الذي كان ينتمي إلى طبقة النبلاء الميسورين نسبيا، حياة مضطربة جدا، فشكل بذلك "نقيض البطل" بكل المقاييس ؛ أنجب الرجل ثلاثة أولاد وتبنى رابعا ("الإخوة كارامازوف"). بدقة الرسام الموهوب ومن خلال تفاصيل الحياة اليومية لأفراد هذه العائلة وعبر غوص متكرر في أعماق "الوجدان الروسي"، مع إحالات دورية، من بين كتاب آخرين، إلى الطبيب (والكاتب) الألماني "شيلر" و الروائية الفرنسية "ساند" والشاعر الروسي "بوشكين"، يبدع "دوستويفيسكي" لوحة واقعية عن المجتمع الروسي وقتها، بمعتقده المسيحي الأورتودوكسي وطبقيته المتجذرة وعاداته التليدة وفنونه الجميلة وخرافاته المبكية-المضحكة وأحكامه المسبقة على الفضاءات الحضارية من حوله، وعلى رأسها الفضاء العربي-الإسلامي. ويمكن اعتبار نهاية القصة رواية مكتملة الأركان، تعنى بالتحقيق القضائي حول ملابسات اغتيال "فيودور بافلوفيتش". 

 

3- صعوبة القراءة

 

تشكل قراءة "الإخوة كارامازوف" تحديا ذهنيا حقيقيا، فالكاتب يتدخل من وقت لآخر (بصفته) في السرد للتذكير بحدث بعينه أو تبرير عدم التطرق إلى بعض الجزئيات أو تعليل لبس مفترض، وأحيانا لسبب غامض (!)، مما يوهم القارئ بمتابعة نقل حي ومباشر لأحداث واقعية. ومما يزيد القراءة صعوبة، ميول الكاتب إلى الاستطرادات الطويلة أحيانا، إلى حد يفقد السرد "خطيته" ويحوله إلى شبه متاهة يصعب معها تلمس الخط الناظم للقصة، لتتضح براعة الهندسة النصية فقط بعد قراءة آخر جملة من الرواية... يسمي الكاتب بعض شخصيات الرواية، بألقاب مختلفة، فمثلا "آلكسيي" و "فيودوروفيتش" و"آليوشا" و"كارامازوف" تطلق على نفس الشخصية في الرواية، حسب السياق ؛ الشيء الذي يفرض على القارئ أن يتعلم بسرعة الألقاب المختلفة لكل "شخصية"، تحت طائلة التيه بحثا عن أصحابها ؛ ولعل تعدد الألقاب هذا، سمة من سمات الثقافة الروسية. 

وكما لو لم تكن كل هذه الصعوبات كافية، فقد قررت، كما ورد سلفا، أن أطل على محتوى هذه الرواية من نافذتين مختلفتين شكلا.

 

4- عن المحتوى

من الصعوبة بمكان الإحاطة الدنيا بعمل أدبي بحجم "الإخوة كارامازوف"، وتتحول هذه الصعوبة إلى استحالة بالنسبة لهواة فن الرواية ؛ "على درب التحديات"، سأحاول إيصال بعض ما انطبع في مخيلتي بخصوص هذا النص البديع، إلى القارئ الموريتاني.

يغلب النقد الاجتماعي اللاذع على كل النص (العنف المنزلي، تشرد الأطفال، تعاطي الكحول، الغش المستشري، شيوع الرشوة، الظلم في حق الضعفاء، الاستلاب