يتطلع الرأي العام الوطني لرؤية الرئيس السابق في قفص الاتهام أمام القاضي في نهاية المطاف (بعد عهد من المذلة والصغار والمظلومية). ويدرك الجميع أنه تطور كبير في مجال الدولة، ما كان ليقع خارج إرادة سياسية قوية وشروط تاريخية مختلفة بعيدة كل البعد عن نقطة البداية، فعندما تسلمت الحكومة الموريتانية الأمر بالديمقراطية من فرنسا سنة 1990 مثل باقي دول المنطقة، لم تكن المؤسسات والأجهزة الحكومية ولا الشعب جاهزا لمثل هذا الخيار، لأن الدولة في العمق لم تكن موجودة، فلا توجد في البلد دولة قانون ولا دولة مؤسسات ولا وعي شعبي، وبالتالي لم يكن هناك ولاء لنظام سياسي مجرد أو للدولة ككيان عمومي، ولهذا، وعند أول فرصة لجردة الحساب بعد انقلاب 2005، تم التفكير في أهم إصلاح يمكن أن يجعل الديمقراطية في خدمتنا، وكان من أهم مخرجات ذلك التفكير الذي جسد زبدة نقاش ونضال وطنيين، هو تقليص “دهر الحكام”، فقد استحوذ رجلان على 39 سنة من أصل 60 سنة هي عمر الدولة: هما المختار ولد داداه (18 سنة) ومعاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع (21 سنة) الذي لم نكد نخرج من قبضته إلا بمعجزة، وقد تم بالفعل تقليص المأموريات وتحصينها بقفل صارم في الدستور. ومن هنا بدأنا نبني التراكم الخاص بنا ونطور ديمقراطيتنا لمصلحتنا. وها نحن اليوم -وفي فرصة تاريخية أخرى- نسير على نفس نهج التصليح، ونسعى لغلق باب آخر من أسوأ أبواب فساد الحكم والحصاد المر، وهو سوء استغلال السلطة (بعد 11 سنة من سلطان الفرد)، حيث كان الطابع العام لتسيير الرئيس السابق للبلد طابعا تدميريا خاصة بالنسبة للموارد وبالنسبة لفكرة الدولة الوطنية، وقد نزع ولد عبد العزيز الصبغة العمومية لتسيير البلد وحوّلها لمصلحة شخصية مشاعة له ولأفراد أسرته على نحو يذكر بنيكولاي تشاوسيسكو الذي كان يحتفظ بنجفة تحمل 4000 شمعة في وسط قاعة بقصره حينما كانت الكهرباء تقطع بصفة منتظمة عن بعض أحياء عاصمة بلاده، تماما مثل عزيز حينما كانت المجاعة تضرب شعبنا في الداخل، ومات عدة أشخاص على فراش الجوع في بوكعاره ،كانت إسنيم تشيد له قصرا في بادية قفر في بنشاب بقيمة 400 مليون أوقية، وكانت عدة بواخر تعمل من دون ترخيص لمصلحته الشخصية في المياه الموريتانية، وكان يُهرّبُ الذهب إلى الخارج، ويحول بعض المعونات لحسابه الشخصي (50 مليون دولار هبة من محمد بن سلمان مثلا، حسب ما يشاع)، وأكثر من كل ذلك تدمير قوة تحمّل الدولة بأن حملها بديون تصل إلى 5 مليار دولار أي 104% من الدخل السنوي الخام، لا يوجد على أرض الواقع منها غير الإنشاءات غير المدروسة والتي تحسب أيضا لسنوات الوفرة في المعادن…
إننا اليوم نلاحظ خلال هذه المرحلة ومتابعة الضغوط السياسية والشعبية، أننا نحرز تجاوب ولد الغزواني مع الشعب في سبيل تكبيل المفسدين عند وصولهم للسلطة مستقبلا أو منع إطلاق اليد في تدمير البلد. ونسعى على نحو لتكميل ما بدأناه لتفعيل وتحصين ديمقراطيتنا. إننا نتقدم دائما، وفي غضون عشرين سنة كدورة ثابتة في تاريخنا السياسي للإصلاح، ونقوم خلالها بعمل تاريخي جبار يوجد -لحسن الحظ- من يدعمه في السلطة. ويجدر بنا أن تفتخر به، وهكذا سنحرز بهذه الوتيرة خلال 60 سنة من بدء التجربة بناء ديمقراطية موريتانية صرفة.
المحاولات المتكررة لصرف النظر عن هذا المسار والإلماع لدواعي جانبية يحول دون إنضاج الصورة للرأي العام، وهكذا نستمع لجدلية “غزواني-عزيز” على نحو مريع من سوء الفهم، فليست المطالب بالتحقيق في سوء استغلال عزيز للسطلة وممارسة النهب وليدة تسلم غزواني للسلطة ولا بنتاً للصراع معه على الحزب الذي حسم في الجولة الأولى، وليست الصورة التي عليها عزيز اليوم، من نهب وسوء حكامة، من صناعة هذا النظام، وليست مرتبطة بمغادرته للسلطة، بل ظلت مسامعه تستك دائما، ويقض مضجعه، ويضج الإعلام وجعجعة السياسيين صباحا ومساء بكل تلك المعايب أثناء وجوده بقوة في السلطة. وقد انقلبت إلى سورة حنق عليه لا يمكن إخمادها. وعلى عكس أي قول من ذلك القبيل، فإن ولد الغزواني يتناغم مع الشعب في مرحلة جموح للإصلاح، ويمده بالصلابة المرتبطة بفصل السلطات، ولا يمكن تغيير حقيقة المسألة لأن عزيز سعى بصلفه لحماية نفسه بمحاولاته الفاشلة لاسترجاع السلطة، وهكذا يكون نقل الحدث من جوهره ومدلوله التاريخي إلى صراع شخصي ضمن جدلية “غزواني-عزيز” تشويها لمرحلة نضج تاريخية توّجها نضال هذا الشعب، واستخفافا بالمشروع الوطني الذي يسعى لاستكمال الإصلاحات.
لقد صاحب هذه العملية جدل قانوني مرتبط بتفسير المادة 93 من الدستور التي ادعي أنها تحمي الرئيس من أي متابعة، مثل نفس الجدل الذي سبقه في طريقة تعديل الدستور وتفسير المواد 38 و99 و100 و101 الذي كشف الوقوف في وجهه عن لوحة شجاعة وصلبة للطيف الموريتاني لثني عزيز عن التعديلات الدستورية، وهكذا يجب النظر للعنوان المهم والدائم لهذا الحدث وتلك الأحداث التي سبقته، على أنها حيوية وطنية بالنسبة للإصلاحات الهيكلية في نطاق الحكم، وتمثل محاكمة عزيز كرئيس سابق إحدى أبرز تجلياتها.
وهكذا يجب النظر إلى هذا الحدث كمرحلة تحول جوهرية لا تقف عند حدود شخصية معينة ولا عند اسم بعينه، بل إلى صفة المتهم وصلاحياته السابقة.
إن الإيحاءات المتعددة التي تريد أن تجعل من عزيز سياسيا، وأن غزواني يسعى لتصفيته من خلال القضاء، ليست أكثر من فكرة سطحية بالنسبة لاستقراء الأحداث وقراءة التاريخ، فالحقيقة أن ولد عبد العزيز فقدَ شرعيته السياسية في مرحلتين أثناء حكمه: الأولى عندما هُزم أمام مجلس الشيوخ في تمرير التعديلات الدستورية، والثانية عندما وصله العدد الحقيقي لمبادرة التعديلات الدستورية من خلال البرلمان لأجل فتح المأموريات الذي كان يسيره من وراء حجاب حيث وصل عدد النواب الموثوق من تصويتهم له إلى 44 نائبا فقط من أصل مائة ونيف على اللائحة، وهو ما دفع عزيز لأن يكتب بيان وقف التعديلات قبل مغادرته إلى الإمارات، ويُنشر بعد ذهابه. لقد كان الحدثان بمثابة شهادة وفاة سياسية لعزيز توجتها عودته للاستيلاء على الحزب الذي لم يبق منه خلالها بجواره سوى 4 أشخاص من أصل مليون ونيف من المنتسبين.
وبهذا يكون عزيز قد انتهى سياسيا ولم يعد له وزن في العملية السياسية يجعله خصما للرئيس الحالي الذي يحظى بتقييم سياسي مشاع عن مصداقيته الشخصية، لكننا في المقابل أمام شخص متهم بخيانة الأمانة والاستيلاء على أموال الشعب بمقدار مليارات الدولارات خلال 11 سنة من حكمه للبلد حاول أن يكون خلالها زعيما وطنيا بواسطة الشعارات البراقة التي ثبت زيفها خلال حكمه. إنها محاكمة عظيمة الشأن وبعيدة الغور لما تحمله من مضامين: فهي تدشن مرحلة جديدة داخل الديمقراطية الموريتانية من جهة، وتشرع أفقا غير مأنوس من قبل، سيجعل الرؤساء يلتزمون حدود القانون والمسؤولين يلتزمون حدود صلاحياتهم.
إنه شأن موريتاني صرف وتجربة فريدة في المنطقة نحاول بواسطتها أن نمرق من محيطنا الذي بنت العنكبوت في أنظمته إلى درجة عالية من الدينامية والوظيفية، يحاول إعاقتنا عنها الملتزمون بخلفيات ليست في الأصل وطنية بالمفهوم التاريخاني الذي ينمي الشعور بالوطنية إلى الخلود بالدوام لقاع البحث عن بعض المصالح الشخصية.
صحيح أنه لا يمكننا إغفال أزمة الزيادة في الأسعار التي تحثها جائحة كورونا ونحن نزهو بهذا الانتصار، لكن وتيرة إصلاح الاختلالات في غضون واقع الجائحة لا يلتفت إليها أحد مثل حصول البلد على 500 مليون دولار خلال الجائحة، ووصول الاحتياطي من العملة الصعبة إلى مليار و500 مليون دولار، وإشباع الخزينة ب 400 مليار أوقية خلال الأيام الأخيرة من السنة المنصرمة في حين تسلم الرئيس الجديد مقاليد الدولة وتوجد بالخزينة 28 مليار أوقية منها 5 مليارات فقط مجهود مصالح الدولة و23 هبة من صندوق النقد الدولي لدعم أداء الخزينة، إضافة إلى دعم قدرات التحمل بالنسبة للدولة، ورصد مئات المليارات للدعم الاجتماعي ودعم تطوير القطاعات الخدمية والاقتصادية للبلد.
إن علينا أن نعمل على تشجيع الرئيس على مزيد من جهود التأسيس: فصل السلطات، وبناء دولة المؤسسات، والتناغم معها كجهود بناء وطنية بصناعة محلية لنظام سياسي فاعل ووطني وليست محاكمة عزيز سوى مكسب وحلقة من حلقات الإصلاح المنشودين.