دِفاعًا عن القبيلةِ...

ثلاثاء, 19/02/2019 - 12:10
إسلمو ولد سيدي أحمد

قد يرى بعضُ الداعين إلى القضاءِ نهائيًّا على القبيلة، أنّ المدافِعَ عنها في القرن الحادي والعشرين (عهد "دولة المواطَنة")، يُعَدُّ كمَن يسبحُ ضدّ التيارِ.

وقد ارتفعت أصواتٌ- في الآونة الأخيرة-لأناس يدعون إلى القضاء على القبيلة، متهمين إيّاها بأنها سبب في كل ما يعانيه المجتمع من تخلّف عن الركب الحضاري!

إنني لا أتفق مع هذا التصور، لأنّ للقبيلة إيجابياتٍ وسلبياتٍ. ولا يجوز أن ننظر إلى النصف الفارغ من الكأس، كما يُقال.

من إيجابيات القبيلة (في الزمن الغابر) أنها كانت صِمام أمان للفرد يحميه من الانحراف. وما زالت لله الحمد، بقية من بقايا ذلك الزمن الجميل.

 كان الشخص يفكر ألف مرة قبل أن يخرج عن الطريق المستقيم، لأنه بذلك سيجلب العار لقبيلته وأبناء عمومته.

 كان الإنسان المنحرف يحرص على الاختفاء عن الأنظار إلى الأبد (يهجر البلد)، يقال: فلان "زَاگْ"، لأنه لم يعد قادرا على مواجهة أهله (يخجل من رفع رأسه أمامهم).

ما زالت القبيلة-حتى يومنا هذا-تحل محل شركة التأمين، عندما يحتاج الفرد إلى رعاية طبية أو يمر بمحنة من نوع آخر، كأن يكون في وضع مالي أو اجتماعي أو قانوني يتطلب الدعم والمؤازرة.

 ونحن نتحدث عن القبيلة، لا بد من التذكير بأنّ المجتمعاتِ العربيةَ مجتمعاتٌ عشائريّة بامتيازٍ.

 ولا ضير في ذلك.

في "ويكيبيديا" التي يمكن الاستئناس بما ينشر فيها-دون الجزم بدقته- تحت عنوان: قائمة قبائل العرب، أحصت أسماء 170 قبيلة.

 ومن المعلوم أنّ هذه القبائل ما زالت توجد لها امتدادات متجذرة في كل البلدان العربية.

 بمعنى أنّ القبائل العربية القديمة لم تندثر، مثل ما حدث للقبائل التي كانت موجودة في أورِبا (الجرمانيون، مثلا)، أو تلك التي تكاد تندثر (مثل قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية والجنوبية).

لا أحد يستطيع إلغاء هذا الواقع العربي بجرّة قلمٍ، لأنّ تحول المجتمعات-من حال إلى حال- رهين بالعنصر الزمني، ولا يحدث عادة بين عشية وضحاها. ثم إنّ إلغاء القبيلة، لا ينبغي أن يكون هدفًا في حد ذاته. لا بد من إعداد البديل، قبل إزالة الموجود. فهل الدولة عندنا أصبحت قادرة على أن تحل محل القبيلة؟

يبدو أننا في مرحلة انتقالية لا نستطيع فيها الاعتماد على الدولة في كل شيء.

 ما زالت القبيلة تكمل جهود الدولة فيما يتعلق بالجوانب المشار إلى بعضها- علاج المرضى ودفع الدية وغير ذلك- ممّا يجعل المستفيدين من هذه الخِدمات يشعرون بشيء من الاطمئنان على مستقبلهم.

يرى بعض المختصين بالشأن، أن قوة القبيلة تتراجع أمام قوة الدولة. كلما قوي سلطان الدولة ووفرت للمواطن الحماية والرعاية التي يحظى بها من لدن القبيلة، ضعف سلطان القبيلة، والعكس بالعكس.

مِن المعلوم أنّ القبيلةَ، بصفة عامّة، الجماعة من الناس تَنتسِب إلى أَبٍ أو جَدٍّ واحدٍ.

في المراجع المختصة، نجد-من الناحية اللغوية، في تفصيل ضُرُوب الجماعات-أنهم إذا كانوا بَنِي أبٍ واحدٍ، فهم قبيلة.

فإذا كانوا بني أب واحد وأُمٍّ واحدة، فهم بَنُو الأعيان.

 فإذا كان أبوهم واحدًا وأُمهاتُهم شَتَّى، فهم بَنُو العَلات.

 فإذا كانت أُمهم واحدةً وآباؤُهم شَتَّى، فهم بَنُو الأخيافِ. والأخياف من الناس: الضُّرُوب المختلفة الأخلاق والأشكال.

تظهر تجليات هذا الاختلاف -بشكل واضح- في تركيبة القبيلة في بلادنا (البيظان بخاصّة)، شأنها في ذلك شأن سائر القبائل العربية.

تحتضن القبيلة- في موريتانيا، على سبيل المثال-جميع الأَخْيَافِ والضروب المختلفة، أو جميع الشرائح الاجتماعية.

 نجد كل الشرائح تتعايش بسلام في المجتمع الموريتاني، في جو من التسامح، والطُّمَأنينة، والاحترام المتبادَل. منهم من ينحدرون من أب واحد وأم واحدة، ومنهم من ينحدرون من أب واحد وأمهات شتّى، ومنهم من ينحدرون من أم واحدة وآباء شتى، لا فضل لأحد على الآخر إلّا بالتقوى والمكانة التي يصنعها لنفسه.

 كُلٌّ يحفظ للآخر مكانته الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ويحترم حِرفته ونشاطه وطرائق عيشه.

تفتح القبيلة صدرها-دون تمييز سلبي- للبيظاني الأبيض والأسمر، للعالِم، للفقيه، للمزارع، لراعي الماشية، للصانع التقليدي، وغيرهم. فهم ذرية بعضها من بعض.

كل ذلك في إطار التراحم، والتكافل الاجتماعي، والتكامل، والتعاون على فعل الخير.

لعل ما نراه اليوم من تنظيمات وشعارات لمجموعات من "شرائح" معينة تطالب بحقوقها خارج إطار القبيلة، دليل على أنّ القبيلة كانت قادرة على احتواء كل هذه الشرائح ومراعاة مصالحها كل حسَب قدراته ومؤهلاته.

ينبغي ألّا يفهَم من هذا الكلام أنني أدعو إلى تكريس القبيلة أو إعطائها دورا أكبر من دورها الطبيعي الذي لا يحل محل الدولة ولا ينافسها، بل يكون مكملا لها.

 المطلوب: الاستعانة بالقبيلة-في إطارها المحدد المتعارف عليه-في تكريس العدالة والمساواة والجمع بين القديم والحديث (ولكل مقام مقال).

يُشار إلى أنني كتبتُ مِن قبلُ مقالا حول الموضوع، بعنوان: "رِفْقًا بالقبيلة"، يمكن الاطلاع عليه في منشوراتي الإلكترونية.

أعود اليوم إلى طرح الموضوع من جديد، إثر ما حدث في العام الماضي (2018م) بمدينة مقطع لحجار (ربما حدث الشيء نفسه في مناطق أخرى من الوطن) عندما تدخل بعض السياسيين-من بينهم عضو في الحكومة- في الشؤون المحلية الخاصة ببعض القبائل، فيما يتعلق باختيار المرشحين لخوض الانتخابات النيابية والبلدية (مع أنّ أهل مكة أدرى بشعابها). بمعنى أنّ هذه القبائل أدرى بمن يصلح للترشح، وبمن لا يصلح.

لقد كان من المناسب-وقد أشرتُ إلى ذلك في منشورات سابقة-أن تترك الحكومة لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية البتّ-على مستوى المركز-في اختيار الأسماء التي يراها مناسبة لشغل المقاعد المتنافَس عليها، على وَفْق معاييرَ شفافةٍ.

من المؤسِف حقا، أنّ جهاتٍ رسمية- نافذة في الدولة-قد اتخذت قرارا بإقصاء الأسماء التي اقترح الشيخ/ موسى ولد كبد إدراجها ضمن المرشحين وترك الكلمة الأخيرة فيها لقيادة الحزب.

لقد ترتّب على هذا الإجراء المنحاز وغير المنصف (والله أعلم بالأسباب الكامنة وراء هذا التصرف)، تأسيس تجمُّع (داخل حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، بالتعاون والتنسيق مع بعض أحزاب الأغلبية الرئاسية الداعمة لبرنامج السيد رئيس الجمهورية) سمّي "حلف الكرامة"، برئاسة هذا الشيخ الموقر الذي يريد الخير للناس كافة، ومشهود له بالصدق والنزاهة والموضوعية والاعتدال، وبأنه لا يخاف في الحق لومة لائم.

أتوقع من السياسيين وكل الحريصين على لحمة المجتمع (على المستويين المحلي والوطني) وخدمة الوطن والمواطن (السلطات العليا بصفة خاصة)، أن يستمعوا جيدا لمطالب وتطلعات القائمين على هذا "الحِلف" الذي تنتمي إليه عناصر وازنة من قبائل مختلفة (تمثل كل أطياف المجتمع المحلي، شِيبًا وشبابًا). فالوطن بحاجة إلى جميع أبنائه، والقوة تكمن في الاتحاد (الاتحاد يصنع القوة).

 أودّ-باختصار شديد-في ختام هذا المقال، أن أنبه الإخوة المعنيين والمهتمين بالشأن السياسي على أنّ القبيلة لا تتعارض-بالضرورة- مع الديمقراطية، وليست سببا ولا مسببا للتخلف، ولا تعرقل عمل الدولة، بل إنها أداة مهمة لخدمة الدولة والمجتمع، إذا ما أُحسِن استخدامها بطريقة مرنة عادلة ونزيهة تساعد أبناء القبيلة على الانخراط في العمل السياسي بشكل إيجابي، دون التنكر لماضيهم وآبائهم وأجدادهم وشيوخهم وأعيانهم ووجهائهم وعاداتهم وتقاليدهم الحسنة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ. فكرامتهم تمنعهم من ذلك، وقد أسسوا حِلفهم (حِلف الكرامة) للتعبير عن هذا الموقف المشرف.

إنّ استهداف الدولة لخلخلة الروابط الاجتماعية بين أبناء القبيلة الواحدة وضرب بعضهم ببعض، لا يصب في مصلحة أي طرف.

أرجو من الحكماء في وطننا العزيز، أن يأخذوا العبرة مستقبلا، ونحن مقبلون على انتخابات رئاسية في السنة الجارية (2019م)، من الآثار السلبية المترتبة على الإجراءات غير الموفقة (حتى لا أصفَها بأكثر من ذلك) لبعض السياسيين.

مع الحرص على عدم تكرار هذا النوع من التصرفات في المستقبَل.

 

والله ولي التوفيق.