"ناموسيات كينيا ".. و "تعليم الهند" !

اثنين, 01/04/2024 - 15:38
الدكتور: محمد حسين أو الحسن

تتفاوت الدول فى درجات الفقر والثراء، كما تنقسم مجتمعاتها إلى طبقات متباينة تتنوع من أغنياء يمتلكون كل ضروب الترف فى الحياة، إلى فقراء يفتقدون أبسط حقوقهم الآدمية، إن التفاوت الرهيب مفارقة تثير الحزن والسخرية، نوع من الكوميديا السوداء.

 

خلصت عدة دراسات إلى أنه لا علاقة بين اختلاف الجغرافيا أو الثقافة بتقدم الأمم أو تخلفها، نعم هناك ثقافة الكسل عند بعض الشعوب، لكن هذا وحده ليس سببا للفقر والتخلف. يرجع الأمر أساسا إلى عدم انتهاج هذه الدولة أو تلك سياسات اقتصادية تحفز الفقراء على اليقظة والتقدم، أن ترى مشكلاتهم من زاوية مختلفة وتطرح حلولا مبتكرة لمواجهتها، هذا يعيدنا إلى آراء الخبيرين الأمريكيين أبهيجيت بانرجى وإستر دوفلو الحائزين على نوبل الاقتصاد، فى كتابهما «اقتصاد الفقراء»، بشأن مشكلة الفقر والمساعدات الموجّهة للمجتمعات الفقيرة، محذرين من اختزال الفقراء فى شخوص كرتونية أو نمطية، وطالبا ببذل الجهد لفهم تعقيدات حياتهم، فمازال الفقر قضية خلافية بين الباحثين، هناك وجهتا نظر رئيسيتان تجاهها، الأولى: أن الفقراء فى «مصيدة الفقر»، وهم سببها، وليسوا فى حاجة إلا لقليل من العون أو مساعدات بسيطة ليخرجوا منها، وأن إصلاح أحوالهم يعتمد على جهودهم أساسا.. الثانية: إن الفقراء هم مسئولية حكوماتهم، ويجب ألا نعتمد على مساعدات، هى مؤقتة بطبيعتها، وليست حلا جذريا ما بقيت بيئة الفقير وأخطاء الحكومات، فلا نفع يُرتجى من مساعدات قد تذهب أدراج الرياح لهذا السبب أو ذاك.

لا يطرح الكتاب وصفات علاجية، إنّما رؤى جديدة،اقتراحات عملية لمواجهة الفقر بفعالية، تعكس إيمانا بأن المعركة ضد الفقر يمكن الفوز فيها،بشرط التفكير الواعى والصبر وقراءة معطيات الواقع بشكل سليم. الخطوة الأولى فى هذا المشوار هى تفكيك أسباب الفقر وقيام الحكومات بتصميم سياسات عامة لمكافحة الفقر؛الفقراء ليسوا بالضرورة سبب «عوزهم»، والمبادرات الفردية وحدها ليست علاجا، خاصة أنهم يدفعون الثمن الأكبر للأزمات المالية الخانقة، التى كادت تعصف بالنظام الرأسمالى فى كل القارات.

وكما سبقت الإشارة، يعانى الفقراء فى كينيا بقلب إفريقيا، انتشار مرض الملاريا بسبب البعوض؛ يحتاجون إلى شباك كهربائية «ناموسيات» لصد البعوض، لكن معظم الفقراء لا يملكون ثمنها الزهيد، إحدى المؤسسات المانحة قامت بتوفير الناموسيات مجانا، بيد أن بعض الأسر استخدمتها كشباك لصيد الأسماك، بينما منحتها لبعضهم نظير مساهمة مالية بسيطة، هذه التجربة وضعها الباحثون تحت المجهر، تبين أن معدلات استخدام الناموسيات تنخفض كلما زادت نسبة ما يتحمله المستخدمون من سعرها.. يؤكد المؤلفان أن هذه النتائج لا تنطبق إلا على هؤلاء السكان فى هذه المنطقة تحديدا من كينيا، قد تختلف النتائج من منطقة لأخرى، ومن دولة لأخرى، الأهم أن الحل يتمثل فى مزيد من التوعية وتوفير مصادر للغذاء بجانب الناموسيات.

فى السياق نفسه توجد مؤشرات على وجود ارتباط قوى بين الفقر والزيادة السكانية، ولكننا لا نعلم: هل يدفع الفقر الأسر إلى إنجاب المزيد من الأطفال، على أمل أن ينتشلوا أبويهم من العوز، أولأسباب ثقافية؟ أم أن إنجاب الكثير من الأطفال يزج بالأسرة تحت خط الفقر لارتفاع أعباء الحياة؟ أيهما يسبب الآخر؟ لا أحد يعلم على وجه التحديد أيهما كان سببا للآخر، لكن يظل علاج إشكالية الفقر بحاجة إلى حلول «خارج الصندوق».

ربما يكون الحصول على التعليم أعقد المشكلات التى يواجهها الفقراء، يضرب المؤلفان مثالا على ذلك: عندما يتعلق الأمر بانخفاض معدلات حضور الطلاب إلى المدرسة، تتكاثر أسباب الظاهرة، مثل غياب التغذية المدرسية، أو عدم توفير الزى المدرسى والكتب مجانا، أو ضعف برامج الدعم العينى، وغيرها من السياسات على موائد وزارات التعليم فى معظم دول العالم، ولكن ماذا عن «التطعيم ضد الديدان»؟.. العجيب أن دراسة أجراها الأمريكى مايكل كريمر (نوبل الاقتصاد) انتهت إلى أن التطعيم ضد الديدان كان الأكثر كفاءة اقتصادية، من حيث تخفيض معدلات التغيب المدرسى، مقارنة بجميع السياسات الأخرى.

أحيانا يكون سبب الخلل فى قضية معقدة، بسيطا وغير منظور، فى بعض ولايات الهند، جربت الحكومة المحلية جميع الحلول الممكنة لتحسين مستويات الطلاب التعليمية، بداية من تجديد البنية التحتية بالمدارس، وصولا إلى تطوير المناهج الدراسية، والاعتماد على الإنترنت، إلا أن أيًّا منها لم يفلح فى تحقيق النتائج المرجوة، وتم إسناد الأمر إلى مجموعة من الخبراء الأكفاء لتحديد الخلل؛ فانتهوا إلى أن العلاج يكمن فى إعادة تنظيم الفصول وتقسيمها بناء على مستوى الطلاب لاعمرهم. بمعنى إمكانية أن يجلس ذو الخمسة عشر عاما بجانب ذى الست سنوات لو كانا فى نفس المستوى العلمى، بهذا الإجراء غير المكلف على الإطلاق، أصبح الطلبة الضعاف أكثر قدرة على الفهم، وكانت هذه هى العقبة الأساسية أمامهم.

إن الوصول إلى حلول لمشكلات الفقر والفقراء ينبغى أن يكون جهدا منسقا بشكل علمى وعلى رأس أولويات الحكومات، لأنه يمس الشريحة الأكبر فى المجتمعات النامية، فى ظنى أن الفقر هو «أم الكوارث» وأخطر انتهاك لحقوق الإنسان، وإلا لما قال الإمام على كرم الله وجهه: «لو كان الفقر رجلا لقاتلته بسيفي»، لذا نحن بحاجة ماسة لا تنتظر لإعلان الحرب على الفقر، من أجل خير الفقراء وسلام الأوطان.

 الدكتور: محمد حسين أبو الحسن