لا شك أن أكبر تحد يواجه وحدة أمتنا وأوطاننا ويوهن قوانا ويشل قدراتنا ويدمر آمالنا ويشجع أعداءنا على النيل منا يتمثل في الأنانية المفرطة الطاغية على نخبنا والمؤدية إلى التنازع الفظيع والعداء الحاد بين مختلف قومياتنا وشرائحنا وألواننا ونحلنا ومذاهبنا واتجاهات فكرنا وساسة بلداننا...
إن الواقع المرير الذي نعيشه ونتجرع أحزانه وآلامه مرده الأساسي حرص كل طرف منا على تحكيم رأيه واتباع نهجه والسير على هواه، والإمعان في إذلال وإقصاء وتهميش من لا ينتمي لقوميته أو شريحته أو مذهبه أو حزبه...شعاره الذي يرفعه: "من لا يحب لنا حبنا ويكره كرهنا عدو لنا".
إن الشقاق القائم في أمتنا بين دعاة القومية ينذز بعواقب وخيمة وكوارث جسيمة ، ويتخذ منه الأعداء مدخلا لنفث سمومهم وتنفيذ أجنداتهم ومخططاتهم من أجل إذلالنا والاستحواذ على مقدرات أوطاننا، وإن لم يتدارك ويوقف أصحابه عند حدودهم سيفضي حتما إلى نزاعات وحروب ودماء وخراب شنيع لا تحسب مآلاته.
كما أن دعوات الشرائحية والاصطفاف العرقي التي شاعت وذاع صيت دعاتها وأنتشر سمهم الزعاف في مفاصل مجتمعنا أضحت خطرا جليا على وحدتنا وتآلفنا وانسجامنا وأمننا وسكينة أوطاننا وتنميتها...
ولم تكن الطرق الصوفية والمذاهب الفقهية والملل والنحل والأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والعقائدية ودعاة المدنية الغربية والسلفية الدينية بمنأى عن هذا الوحل وهذا الصراع المدمر، سواء كانت مرجعيات أصحابها إسلامية أو قومية أو علمانية...إذ يتصرف كل منهم ويصرح وكأنه المحق وحده والجدير بالتقدير والإنصاف والثقة ، في الوقت الذي ينظر إلى خصومه بعين الريبة والتخوين وعدم الأهلية وسوء الطوية ، وكأنهم غرباء على الأوطان أو غزاة لها أو مجرمون يترصدونها، وهو ما يوجب في نظره كبت مطامحهم ووأد أحلامهم وإقصاءهم من حلبات التنافس السياسي والاجتماعي والتنكيل بقادتهم وداعميهم والزج بهم في السجون وتصفيتهم وتسفيه آراء مفكريهم وحكمائهم وساستهم والتحريض على فقهائهم وعلمائهم ورميهم بالتهم المخلة بالدين والمروءة بغير بينة...
ويعمل جمهور قادة ومؤيدي هذه الفرق الأنانية الاستبدادية على اصطياد الزلات وتهويل الأخطاء وتحميل الجماعة تبعات كلام أو فعل الأفراد، جاهلين أو متجاهلين أن"لا تزر وازرة وزر أخرى"، بل إن أغلبهم يعمل على تلفيق التهم ووضع الخطط للنيل من الخصم.
لقد دفعت بلاد المسلمين أثمانا باهظة من مقدراتها وأمن مواطنيها ودمائهم وأعراضهم بسبب الاصطفاف خلف دعاة الذب عن السنة أو الشيعة أو الصوفية أو دعاة التأسي بالمدنية الغربية وقيمها أو خصومهم من دعاة التمسك بالسلفية وثوابتها، ولقد كان الثمن باهظا جدا بسبب التحزب للقومية(البعثية أوالناصرية...) وغرمائها من الإسلاميين (إخوانا أو وهابيين...).
غير أن الأدهى والأمر أن الصراع بين القوميين أنفسهم كان شرسا ومريرا، وكذلك الأمر بالنسبة للإسلاميين والعلمانيين الليبراليين والشيوعيين...وهو ما يرجح أن مبادئ أغلبهم فقاعات تتلاشى حين تصطدم بما لا يتماشى مع مصالحهم الذاتية الآنية الضيقة.
ولقد اكتوينا في وطننا هذا بنار هذا الصراع المرير العابر للحدود وتجرعنا مضاضته، فتعددت الطرق والمذاهب والملل والتيارات العقدية والأحزاب السياسية والقوميات والشرائح... وتباينت آراؤها وتراشقت بالاتهامات والشتائم، فاستبيحت الدماء والأموال والأعراض، وتصدع صرح الوحدة الوطنية، وانقشعت هيبة الدولة، وانتهكت أعراض أساطين العلم وأهل والورع، وتراجعت الأخلاق والقيم ، واستبيح حمى المحرمات، وذاعت دعوات هدامة كثيرة بين صفوف أهلنا ، ترمي إلى قطع الأرحام وتفريق الشمل وبث الضغائن والأحقاد، حتى أصبحنا على شفى بركان نائم يوشك أن يثور فيهلك الجميع.
ونظرا لفداحة وهول الوضع وسوء عواقبه كان حريا بالمصلحين من الساسة والعلماء والمثقفين أن يعملوا بوتيرة فائقة السرعة من أجل تدارك الأمر والأخذ على أيدي الأنانيين الإستبداديين السفهاء من كل الفئات والقوميات والتيارات... غير أن ذلك لن يؤتي أكله طيبا لذيذا إلا إذا تحقق ما يلي:
أ-قناعة الجميع بضرورة التعايش السلمي على أديم هذه الأرض الطاهر، وأن يسود الإخاء والتفاهم والحب والتقدير والاحترام المتبادل بين كافة مكونات هذا الوطن ونخبه رغم اختلاف ألأوان والأعراق والقوميات والمذاهب والتيارات وأحزاب...وأن يدرك الجميع أن التلون والاختلاف وتباين وجهات النظر مصدر غناء ونماء إذا وظف على ما يرام، وأن الاستبداد بالرأي والتعصب الأعمى للفريق وتزكية قادته وقراراتهم وتسفيه خصومهم وتشويه نهجهم ونعت أعلامهم بالعمالة والرجعية والإرهاب وإتيان البدع وانتهاج التكفير والتخلف والوقوف في وجوههم بحق أو بغير حق...مسلك مخل وطريق مظلم مخيف يوشك سالكوه أن يُهلكوا ويَهلكوا.
ب- أن تسود عدالة اجتماعية حقيقية تُوزع الحقوق بموجبها على مستحقيها بعدل، فترفع المظالم ، وينصف المضطهدون المهمشون المحرومون وما أكثرهم ، وتشيع حرية التعبير، ويقضى على كافة أنواع الفوارق والغبن والتمييز، حتى يحس كل مواطن بأهميته ، وينال حقه كاملا غير منقوص وبدون حاجة إلى وساطة متنفذ أو تدخل وجيه.
ج- أن يفسح المجال للتنافس الإيجابي بين جميع الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية في جو تطبعه المساواة والموضوعية والابتعاد عن الاستبداد والعصبية وكل دعوات الجاهلية.
د- أن يتم ولوج جميع المواطنين للوظائف واستفادتهم من الخدمات العمومية بتساو ودون أية تراتبية، حتى يحسوا بالأمل فتتبدد مخاوفهم وينزاح قلقهم ويشمروا عن سواعد الجد والوطنية ليبنوا وطنهم ويحموا حماه، وهم أعزة منسجمون متآخون موحدون...وما ذلك على الله بعزيز.