أعاد الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس غينيا كوناكري، ألفا كوندي، في 5 سبتمبر الجاري، طرح سؤال التناوب الديمقراطي في إفريقيا. وهو سؤال يتكرر طرحه في كل مرة يحدث فيها انقلاب عسكري جديد كاشفا هشاشة البناء الديمقراطي في القارة الذي انصرف بشكل حصري تقريبا إلى ترسيخ التمرين الانتخابي دون الاعتناء بالحوامل الحقيقية للديمقر اطية الغربية مثل؛ التعليم، والتنمية الاقتصادية، وتكريس قيم الحرية والتعددية السياسية، والمواطنة والمساواة أمام القانون، واستقلال القضاء، وتعزيز دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية والصحافة.
ويقتضي الإنصاف استحضار حداثة التجارب الديمقراطية التعددية في القارة التي يعود أرسخها في الزمن إلى نهاية حقبة الحرب الباردة مطالع تسعينيات القرن الماضي، كما أن المصالحة بين البيئات الاجتماعية الإفريقية القائمة صلات الدم والعصبة والقبيلة، وبين الأنموذج الديمقراطي الغربي، القادم من بيئة حضارية وثقافية جوهرها الفردانية، تتطلب وقتا طويلا.
ديمقراطية بلا "ديمقراطيين"
تتندر بعض أوساط المثقفين الأفارقة بأن في القارة كثيرا من الساسة من كل الانتماءات الإيديولوجية؛ يمينا ويسارا، لكنها عاقر من المؤمنين بالديمقراطية القابلين باستحقاقاتها العسيرة غالبا.
في العقود الثلاثة الأخيرة، التي هي عمر التحول الديمقراطي الوليد في إفريقيا، شاع قيام الرؤساء بتعديل الدستور من أجل البقاء في السلطة عبر إلغاء المواد المتعلقة بتحديد عدد الولايات الرئاسية.
لكن من يمارسون هذه الوأد الخفي للديمقراطية هم عادة حكام عسكريون وصلوا إلى السلطة بانقلابات ثم اضطرتهم سياقات سياسية؛ محلية أو إقليمية أو دولية إلى تحديد عدد المأموريات، وبالتالي يقومون برفع التقييد عنها حين تكون الفرصة مواتية.
لكن اللافت هو أن هذه الممارسة لم تعد، في العقدين الأخيرين على الأقل، حكرا على الحكام العسكريين. فخلال هذه الفترة، قام ثلاثة رؤساء في إفريقيا الغربية بتعديلات دستورية غايتها وأد التناوب السياسي عبر البقاء في السلطة بذرائع متعددة. والمثير في الأمر أن القادة الثلاثة تزعموا المعارضة في بلدانهم عقودا طويلة ووصلوا إلى السلطة من باب التناوب الديمقراطي.
واد...الديمقراطي الذي أراد قتل التناوب
ففي 2001، أقدم الرئيس السنغالي السابق، عبد الله واد، على تعديل الدستور بحجة إجراء إصلاحات هيكيلة، لكنه اتخذ ذلك حجة للترشح لولاية ثالثة عام 2012، لكنه خسر تلك الانتخابات خسارة مدوية ليختم مساره السياسي الحافل على ذلك النحو المأساوي.
انتدبت منظمة "الإكواس" رئيس نيجيريا السابق، أوليسيغون أوباسنجو، لإقناع واد بعدم الترشح، لكن الرئيس السنغالي رفض الوساطة. ومن سخرية الأقدار أن واد نفسه كان وسيط "الإكواس" لإقناع أوباسنجو، وهو عسكري سابق، بعدم الترشح لولاية ثالثة قبل ذلك بخمس سنوات، وهي وساطة قبلها الرئيس النيجيري وتخلى عن الرئاسة رغم أنه عسكري سابق وحكم نيجيريا باسم الجيش بين 1976 و1979 !!!.
وتارا وكوندي... توجيه التناوب والردة الديمقراطية
في 2020، قام رئيس كوت ديفوار، الحسن وتارا، بتعديل الدستور ليتمكن من الترشح لولاية ثالثة كان أعلن عدم تقدمه لها واكتفاءه بدعم مرح حزبه ورجل ثقته ممادو غصن كوليبالي. لكن الرئيس المريض ما لبث أن تراجع عن وعده إثر الوفاة المفاجئة لخليفته ومرشحه، معللا ذلك بأن الوقت ضاق عليه لتقديم مرشح آخر، وبالتالي ليس أمامه إلا الترشح ضمانا لاستقرار البلاد. ووعد وتارا بعدم إكمال مأموريته الثالثة والاكتفاء منها بما يُمكنه من الإعداد لانتقال السلطة بشكل سلس.
وفي العام نفسه، دعا رئيس غينيا، ألفا كوندي، لاستفتاء شعبي على تعديل الدستور ليتمكن من الترشح لولاية ثالثة في سبتمبر من نفس السنة.لم يقدم كوندي تبريرا لخرقه قواعد التناوب الديمقراطي الذي حمله إلى السلطة عام 2010، واكتفى بالقول إن تحديد عدد الولايات في اثنتين ليس عقيدة.
كشفت الحالة الغينية ونظيراتها عن تحد آخر يواجه الديمقراطية في إفريقيا هو عدم استعداد النخب المدنية لتحمل استحقاقاتها، وأولها التناوب السياسي. بل إنه في هذه الحالات الثلاث، حاول زعماء سياسيون قتل التناوب رغم أنه كان مطيتهم إلى السلطة.
الاستخلاف بدل التناوب
شكلت الثورة الشعبية ضد نظام بليز كومباوري في بوركينا فاصو، في ديسمبر 2014، مفصلا حديا في تاريخ التحول الديمقراطي في إفريقيا، وكشف، على نحو ما، أن التناوب الديمقراطي صار مطلبا شعبيا ذاتيا للشعوب الإفريقية بعد أن كان شأنا من شؤون النخب؛ عسكرية ومدنية. فلأول مرة أطاحت حركة جماهيرية بنظام سياسي في إفريقيا بسبب تعديلات دستورية مرفوضة شعبيا دون تدخل من الجيش.
ألهم درس بوركينا فاصو بعض الزعماء الأفارقة آلية جديدة لإجهاض التناوب بعد أن استنفذوا الطرق التقليدية مثل تزوير الانتخابات، ثم وضع شروط ترشح تقصي المنافسين الجديين، وأخيرا تعديل الدستور.
في عام 2016، أعلن رئيس أنغولا، أدواردو دوس سانتوس، نيته عدم الترشح لولاية جديدة بعد أن قضى في السلطة نحو 3 عقود شهدت البلاد خلال اثنين منها حربا أهلية دامية. وقع اختيار دوس سانتوس على وزير دفاعه جواو لورينزو ليخلفه في قيادة البلاد. لكن الرئيس الجديد بادر، فور تنصيبه، إلى إعلان "حرب على الفساد" كان واضحا أنها ستطال مقربين من الرئيس بحكم سيطرتهم على مفاصل الاقتصاد. وهكذا جرى توقيف نجل الرئيس وجُمدت أموال ابنته واستقر هو في منفاه بالبرتغال.
في ركاب الثورة الشعبية في بوركينا فاصو، أعلن رئيس موريتانيا السابق، محمد ولد عبد العزيز، نيته عدم الترشح لرئاسيات 2019. وفي بداية ذلك العام، أعلن الحزب الحاكم اختيار وزير الدفاع، الجنرال محمد الغزواني، مرشحا للحزب للاستحقاق الرئاسي.
وبعد شهور قليلة من انتخاب ولد الغزواني، شُكلت لجنة برلمانية للتحقيق في شبهات فساد في عهد ولد العزيز، وانتهى الأمر بالرجل سجينا بعد خرقه إجراءات الإقامة الجبرية التي يخضع لها بعد توجيه تهم فساد إليه.
أثارت الحالتان الأنغولية والموريتانية جدلا بشأن إمكانية قيام تناوب سياسي سلس في إفريقيا يشجع القادة على ترك السلطة دون قلق من إمكانية تعرضهم أو تعرض ذويهم للانتقام.
لكن هذا النقاش ظل، في أحيان كثيرة، يغفل بعدا مهما في الموضوع هو مسؤولية القادة في تهيئة الظروف المناسبة للتناوب من فصل للسلط، وتكريس لاستقلالية القضاء.
هواجس التناوب...
يثير تعثر التناوب السياسي في الحالات السابقة تساؤلا مشروعا عن سبب رفض القادة ترك السلطة؟
لقد قامت التجارب الديمقراطية في إفريقيا، كما أشرنا في مستهل هذه الورقة، على عيب جوهري هو الانصراف إلى التمرين الانتخابي وإغفال الحوامل الأساسية للبناء الديمقراطي مثل الحكم الرشيد وفصل السلط وتكريس استقلال العدالة ودولة القانون.
يوفر هذا الواقع بيئة مناسبة للفساد الإداري والمالي واستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع، كما أن البنيات الاجتماعية التقليدية القائمة على صلات الدم والعصبة توفر حاضنة تلقائية لأي رئيس جديد تمكنه من إرساء أركان نظامه مقابل امتيازات للأقربين لا تنفك تتعاظم.
ولا يكاد الرئيس ينهي مأموريته حتى يكون قد تورط أو وُرط في ملفات فساد كثيرة تجعله متوجسا من ترك السلطة خاصة أنه يدرك، أكثر من غيره، ضعف المنظومة القضائية التي لم يبذل جهدا لتقويتها. وفي الحالات الثلاث التي أوردناها يُتهم الرؤساء أو مقربون منهم في قضايا فساد ورد ذكر بعضها في تقارير دولية.
الديمقراطية هي الحل
إن أسباب تعثر التناوب السياسي في إفريقيا متعددة، لكن المؤكد هو أن نجاحه يتوقف على تطوير البناء الديمقراطي نفسه.
خلال العقود الثلاثة الماضية، ساهمت الاستحقاقات الانتخابية التعددية في تطوير الحياة المدنية في إفريقيا، ومكنت دولا عدة من الخروج من حقب الديكتاتورية البائسة بفضل نضالات شعوبها ونخبها، لكن هذا الشكل من أشكال الممارسة الديمقراطية بلغ حدوده القصوى دون أن يُحقق هدفه الجوهري وهو تحصين التناوب السياسي كي لا أقول إنه عجز عن تحقيقه.
إن الديمقراطية في إفريقيا بحاجة اليوم إلى تطوير جوهري مدخله الأبرز الاهتمام بالحوامل الحقيقية للبناء الديمقراطي القادرة وحدها على خلق الظروف المناسبة لتناوب صلب وقادر على البقاء لوحده تحرسه الإرادة الشعبية القوية والواعية.