الكاتبة عزيزة البرناوي تكتب .. تيارت مهد الأصالة ووجنة البهاء

أحد, 28/07/2024 - 22:07

كانت تتسرب إلى مسامعي وأنا في مسقط رأسي على شاطئ الأطلسي الناعم الوقور، صور للوديان الآدرارية، ترسم حكاياتها لوحات شاحبة لخرائط الذكريات الملونة بمراحل العمر المركونة على مرسى المنفى الواجم، حيث كان الرواة على اختلاف أسباب نزوحهم يحرصون في حكاياتهم على نقل الصور الشعورية عن طفولتهم أو فضائل مجتمعاتهم أو تجاربهم العملية أكثر من وصف التضاريس و إبراز تفاصيل تدفق الدهشة في مسارب الطبيعة الخلابة للمنطقة. 

وبالإضافة إلى رمادية الروايات و حرقها على قرص المبالغة في قساوة الجو الآدراري و حرارته، و الانبهار والإشادة برطوبة و برودة المناخ الجنوبي لنواكشوط، تشكلت في ذهني صورة مشوهة عن الوديان الجبلية التي كنت أتخيلها ركام حجارة مستعرة و وديان النخيل التي استنبطت من اسمها: (ازرايب) صورا لمشاتل مكتظة بانبعاثات الأسمدة و روائح ركود برك المياه العفنة و جذوع النخيل الخشنة التي ظننتها مجرد أجسام تخدش البصر بزعانفها الباهتة الطويلة والحادة.

لكن حظا أتى متأخرا قادني قبل أيام إلى مدينة أطار التي كنت قد زرتها قبل سنوات و احتفظت لها بصور مؤطرة في براويز الذكريات الجميلة، مخلدة في رفوف الخروج عن المألوف بتربعها بكل أناقتها في  بعد زمني  خاص بها مفصل على مقاس العراقة و المدنية، تتفرد به بازغة بفخامة الحضارة و بهاء المعاصرة  بين حنكين حجريين كوشم نابض يطوقه عقد منطفئ من العقيق الدافئ الغامق.

غير أنني هذه المرة توجهت إلى  واد تيارت معقل المغاوير و صفحة التاريخ الذهبية التي قرأت كثيرا اسمها بين سطور  كتب ومخطوطات جدي أحمد ولد حمين رحمه الله الذي هام عشقا بمؤلفات الإمام أبو بكر الحضرمي دفين أژوگي، لدرجة جعلني وأختي الديدة نحفظ كتابه الإشارة في تدبير الإمارة عبر فرضنا في سن مبكرة على حفظه، حتى وضع لنا جائزة نقدية ألف أوقية لمن تكمل أولا حفظ باب من أبوابه فاحتدمت المنافسة بيننا في إحدى العطل الصيفية حتى اكملنا حفظه، وللأمانة فازت الديدة بقرابة الثلثين من الثلاثين بابا، وكانت كالعادة بخيلة معي في جوائزها بينما سطت عبر التحايل على نصف جوائزي، فغالبا كانت تبيعني قصصا وأساطيرا من نسج خيالها مقابل جعلي بطلة لتلك القصص التافهة.

عندما سلكنا الطريق الإسفلتي المؤدي إلى تيارت ظلت القمم الجبلية تقترب وتبتعد في عملية مد وجزر بطيئة وطفيفة انحدرنا خلالها وارتفعنا عبر ممر حجري فسيح تمتمد على طوله أنابيب حديدية تتوسطها خزانات صفيح مستديرة كبيرة كأنها حدوات أحصنة أسطورية أو تيجان مملكات مهجورة تقف لها ذرى تلك الجبال تعظيما و إجلالا، وفجأة ارتفعت الطريق بالسيارة فظننتها مجرد ربوة عابرة حتى تراءت لي أرض جديدة كأنها نافذة على كون موازٍ، وظهرت منعرجات المسار التي أثارت ذعري ودهشتي في آن واحد، كثبان رملية ذهبية تكتحل بخط علوي جبلي أسود و آخر أخضر سفلي تشكله واحات نخل قنوان ساحرة، وفي السفح البعيد تتلألأ المساكن كأنها حطام سفينة غارقة في قاع المجهول و الحيرة، ظهر معبر (انطرازي) المهيب و المدهش بنفس القدر كأنه حبل مظلة جوية خارقة هبط بنا في الواد المتوهج تيارت…

الواد ذي الزرع الكثيف و الطلح الظليل والنخل المثقل بالثمار و الهواء الطاهر من رئة كون نظيف، لم أتنفس أنقى منه في حياتي، لم انتبه لنهاية الطريق الاسفلتي بسبب قفز بصري بين سواد الجبال و لمعان ذهبية الرمال و بهاء خضرة النخيل و أناقة اللون البني المميز لأعرشة الطين النائمة على جنبات الطريق، كأنها بقايا قهوة معتقة في قعر فنجان عراقة منسي في محطة بين زمنين، ثم انبثقت بنايات كقطع الكعك طرزت بشعارات تشير إلى أنها منتجعات سياحية مسيجة بأسلاك شائكة وأسوار قصيرة من زعف النخيل المصفر، و ما هي إلا لحظات حتى احتشدت واحات كثيفة من النخيل المتفتق بزعفه الأخضر ريشي الشكل وعذوقه الحمراء كزهور النرجس الزاهية، يحسبها الوافد المنبهر مثلي تلوح وتصفق في استقبال أسطوري بمناسبة دخوله وادي التاريخ و الهدوء و النقاء و البساطة الفخمة (تيارت)، ووسط القرية المرسومة على ثغر الواد العميق يمر الطريق بتلة مرصعة بأحجار كبيرة برتقالية تضم أضرحة منظمة كأنها صندوق كنز مفتوح في متحف أثري.. هنا يشير أحد السكان الأصليين للواد وقد تكثف الاعتزاز و الفخر في حنجرته قائلا: في ذلك الضريح الحجري الفخم يرقد الإمام الحضرمي على روحه الرحمات، ثم يسألني لابد أنك سمعت عنه؟!! 
لأجيبه باقتضاب نعم سمعت عنه! وكنت قد انطلقت لحظتها في أغوار الذكريات وسراديب المخيلة راكضة نحو جدي أمسك يده قبل مغيب الشمس أطلب جائزتي بعد حفظي للباب السادس عشر من [كتاب الإشارة في تدبير الإمارة] (باب في الكلام و الصمت)و أعيد عليه السؤال للمرة الألف: (الداه.. لماذا تحرص على تحفيظي لهذا الكتاب هل سأتحول عندما أكبر لأمير يسير مملكته وجنده؟! ) ليجيبني بنفس الجملة دائما: (أو قد تصبحين ملكة كبلقيس لكِ عرش عظيم) فتتدخل أختي الديدة بتنمرها و تذكره بضرورة تزويد ذلك العرش بوسادة ترفعني حتى يراني الوزراء!! فيضحك رحمه الله ضحكة تملأ قلبي  طمأنينة وروحي نورا و سكينة و تفتح أمامي أبواب الحلم على مصراعيها فأواصل تسيير مملكتي التي تعاقب بالنفي و الأعمال الشاقة كل من يتجاوز طوله تاج الملكة عند وقوفها.. 

كانت تجربة الإقامة في واد تيارت فريدة من نوعها خاصة الاستلقاء ليلا تحت قبة السماء بعد انطفاء كل الأنوار وتوقف  حركة المرور و تأمل  النجوم المبعثرة بفوضوية متناسقة في حدقة المدى الفسيح، في هدوء تام وصمت مطبق لا صوت يكرره الصدى غير صوت أنفاسي المسترخية على أرجوحة الهواء النقي، و تعطيل كل أجهزة الانذار التي تنهك أرواح سكان العاصمة، فالمكان آمن لدرجة الشعور بالانتقال إلى كوكب صغير في مجرة بعيدة عن تعقيدات الحياة و سوداوية الدوران في دوامات القلق و الخطر والمطاردة والهرب واتخاذ ذهنية الدفاع ومواجهة الهجمات المحتملة، هنا تيارت حيث لا يسجل الصدى رنين أجراس الخطر  و لا صفارات الإنذار إنما تتعالى صباحا أصوات العصافير و مساء ضحكات الأطفال وليلا نغمات حناجر المداحين وفجرا نبض الصمت العميق وهدوء سكينة النقاء الروحاني الأخاذ.