
هل ينبغي أن ننتظر النضج الكامل للنسيج الاقتصادي قبل إطلاقها، أم أن إنشاء البورصة هو ما سيسرّع من هيكلة المنظومة الاقتصادية ؟
تواجه مبادرة إنشاء بورصة للأوراق المالية في موريتانيا جملة من الانتقادات، غالباً ما تصدر عن خبراء ومحللين يُنظر إليهم كأطراف ذات دراية بالنظرية الاقتصادية .
و ترتكز هذه الانتقادات على تقييم مفاده أن البيئة الاقتصادية والمؤسسية الوطنية لا تستوفي بعد المتطلبات الأساسية لقيام سوق مالي منظم، لاسيما من حيث الشفافية و موثوقية الإفصاح المالي، وغياب قاعدة كافية من الشركات ذات الهيكلة القانونية والمالية السليمة، إضافة إلى محدودية مستوى التخصص والاحتراف لدى الفاعلين في منظومة الوساطة المالية و الخدمات المرتبطة بها.
رفض هذا المشروع بذريعة غياب المتطلبات التمهيدية الكاملة يُعد طرحًا غير بنّاء. إذ يُستحسن اعتماد مقاربة استشرافية ترتكز على التطوير التدريجي و المواكبة المؤسسية المتدرجة للنظام المالي الوطني. فتجارب دول مثل المغرب و غانا و رأس العاج و كينيا تُظهر أن إرساء سوق رأس مال فعّال لا يشترط بالضرورة نضجًا كاملاً للنسيج الإنتاجي أو جاهزية مطلقة للهيئات التنظيمية. بل إن إطلاق البورصات في تلك السياقات شكّل رافعة لتحفيز الهيكلة الاقتصادية، من خلال دفع الشركات نحو الشفافية و تبني معايير إفصاح و محاسبة أكثر صرامة، بالإضافة إلى بروز فاعلين متخصصين في الوساطة المالية ، و مكاتب التدقيق، و المحللين الماليين، مما ساهم تدريجياً في إرساء دعائم سوق مالي منظم.
في الواقع، يتجه التفكير الحكومي في موريتانيا نحو بناء تدريجي وممنهج لمنظومة مالية متكاملة قادرة على مواكبة تطوير سوق رأس المال الوطني. فقد انطلقت بالفعل عملية إعادة هيكلة المؤسسات العمومية ورفع مستوى حوكمتها، بهدف تحديد الكيانات التي يمكن أن تخضع لعمليات خصخصة جزئية أو كلية في إطار شفاف وقانوني.
و في السياق ذاته، يجري التفكير في تنفيذ إصلاح شامل لمهنة المحاسبة لتعزيز جودة الإفصاح المالي، إلى جانب مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي لتيسير ولوج مكاتب التدقيق والمراجعة الدولية إلى السوق الوطنية.
و ستُشكّل هذه الإصلاحات مجتمعة دينامية مؤسسية وتقنية ستضع الأسس الضرورية لقيام بورصة فعّالة، وتسهم في بناء سوق مالي حديث، شفاف، و شامل، قادر على كسب ثقة المستثمرين الوطنيين و الدوليين.
و من المهم، في سياق هذا النقاش، التمييز بين البورصة كسوق منظمة لتداول الأوراق المالية، وبين السوق المالي بمفهومه الأوسع.
إذ تمثل البورصة في جوهرها بنية تحتية تقنية تكنولوجية و قانونية مخصصة لتسعير وتداول الأدوات المالية، و تُعد آلية لتسهيل التقاء عرض رأس المال (من خلال الجهات المُصدرة) مع الطلب عليه (من قبل المستثمرين). و هي بذلك تختلف عن باقي مكونات النظام المالي، التي تشمل المُصدرين، و المستثمرين، و الهيئات التنظيمية و الرقابية، و المحاسبين القانونيين، و المؤسسات المالية الوسيطة مثل البنوك الاستثمارية.
و في سياق تسعى فيه موريتانيا إلى تنويع آليات تعبئة الموارد المالية، و لا سيما لفائدة القطاع الخاص، تكتسب عملية إنشاء بورصة للأوراق المالية بعدًا استراتيجيًا بالغ الأهمية. فهي تمثل إشارة واضحة على التزام الدولة بتعزيز الشفافية المالية، و ترسيخ الثقة في الإطار المؤسسي، وتهيئة مناخ جاذب للاستثمارات طويلة الأجل.
فعلًا ، البورصة لا تُعد هدفًا نهائيًا بحد ذاتها، بل تشكّل أداة هيكلية ضمن إطار إصلاحي أشمل يهدف إلى تحديث المنظومة المالية و الارتقاء بآليات تعبئة التمويل. و يُفترض أن يتم إنشاؤها وفق منطق تدريجي وتفاعلي، مدعوم بحزمة من الإصلاحات المكمّلة التي ترمي إلى تعزيز جودة الإفصاح و المعلومات المالية، و رفع مستوى مصداقية الفاعلين في السوق، و نشر الثقافة المالية و الاستثمارية لدى مختلف مكونات النسيج الاقتصادي.
و في هذا السياق، من الضروري الإشارة إلى أن الشفافية لا تسبق دائمًا قيام المؤسسات، بل غالبًا ما تكون نتيجة مباشرة لوجودها. فالبنية القانونية و التنظيمية التي توفرها البورصة هي ما يُمكّن من إرساء قواعد واضحة و شفافة و قابلة للتحقق. و بالتالي، فإن رفض البورصة باسم غياب الشفافية هو في حقيقته دفاع عن وضع قائم تغيب فيه الشفافية ولا تخضع فيه التعاملات لمعايير المساءلة والمنافسة.
هل انتظرنا أن تتحلى جميع المؤسسات بالشفافية قبل إنشاء البنك المركزي؟
بطبيعة الحال لا.
إذ أن وجود المؤسسة هو ما يدفع نحو تحسين الممارسات.
و بنفس المنطق، فإن الامتناع عن إنشاء بورصة خوفًا من أن تستفيد منها النخب الفاسدة ، يُفضي عمليًا إلى ترك تلك النخب تستفيد من غياب المنافسة و الإفصاح دون حسيب أو رقيب.
إن تأسيس بورصة وطنية، إذا ما تم في إطار قانوني و مؤسسي واضح، وبإرادة إصلاحية صادقة، سيكون خطوة مفصلية في مسار بناء اقتصاد حديث، يوازن بين الجاذبية الاستثمارية و الشفافية، و يجعل من رأس المال أداة للنمو المشترك بدل أن يظل امتيازًا محصورًا في أيدي قلة قليلة.