سيدي محمد ولد محم.. فكر سياسي متوازن وإدارة تقنية ناجحة

خميس, 29/05/2025 - 00:16

يُعد سيدي محمد ولد محم من أبرز الشخصيات السياسية في موريتانيا خلال العقد الأخير، حيث لعب دورًا محوريًا في صياغة الخطاب السياسي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية (UPR) خلال فترة حساسة من تاريخ البلاد، خاصة في فترة ما بعد التحول الديمقراطي وتعزيز الاستقرار السياسي.

خلال قيادته للحزب، برز فكر ولد محم السياسي كفكر يقوم على “الشرعية الديمقراطية” و”الانفتاح السياسي المحسوب”، إذ حاول الموازنة بين دعم النظام والمحافظة على هوية الحزب كفاعل سياسي يعبر عن مختلف مكونات الشعب الموريتاني. وقد تميز خطابه بالحذر والدقة، إذ دعا إلى دعم المؤسسات الجمهورية، والانخراط في عملية سياسية تبتعد عن الصدامات، وتفتح الأفق أمام المعارضة البناءة.

من ملامح فكره السياسي كذلك تمسكه بمبدأ “الوحدة الوطنية”، حيث اعتبرها ركيزة لأي مشروع تنموي مستدام، ودعا إلى نبذ خطاب الكراهية وتعزيز اللحمة الاجتماعية. كما أبدى مرونة في إدارة الملفات السياسية الحساسة مثل الحوار الوطني، مؤكدًا ضرورة احتواء الخلافات بالحوار بدلًا من التصعيد.

سيدي محمد ولد محم: بلاغة النطق ورصانة الخطاب في قلب المشهد الحكومي

عُرف سيدي محمد ولد محم، خلال فترة توليه منصب الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية، بأنه واحد من أكثر الوزراء قدرة على التحكم في أدوات الخطاب الرسمي، وقيادة الرأي العام بأسلوب يجمع بين الدقة القانونية والحنكة السياسية. وقد تولى المنصب في مرحلة بالغة الحساسية، تزامنت مع تصاعد الخطاب السياسي في البلاد، وتجاذبات داخلية وإقليمية معقدة.

بلاغة النطق: لغة متزنة ورؤية واضحة

من أبرز ما ميز أداء ولد محم كوزير ناطق باسم الحكومة هو قدرته الفائقة على ضبط المفردة السياسية. فقد عرف بأسلوبه المتزن الذي لا يخلو من الحزم، وكان حريصًا على إيصال الرسائل الحكومية بشكل يحترم عقول المتلقين، دون الوقوع في التهويل أو الارتباك.

لم يكن يتحدث بلغة إنشائية فضفاضة، بل استند غالبًا إلى معطيات دقيقة، وكان يحاول قدر الإمكان توضيح المواقف الرسمية بمرونة دون المساس بجوهر السياسات الحكومية، وهو ما جعله محل اهتمام الصحافة، سواء المحلية أو الأجنبية.

التعامل مع الصحافة: حضور واثق وإجابات حاسمة

خلال المؤتمرات الصحفية الأسبوعية، أظهر ولد محم قدرة لافتة على التعامل مع أسئلة الصحفيين، بما في ذلك الأسئلة المحرجة أو “المفخخة”. كان يتحلى بـ”هدوء أعصاب” قلّ نظيره، وكان يعيد صياغة الأسئلة أحيانًا ليضبط السياق، قبل أن يجيب بدقة تحمي موقف الحكومة دون استفزاز للرأي العام أو للمعارضة.

وقد أثار أداءه إعجاب كثيرين، حتى من خصومه السياسيين، نظرًا لطريقته في الجمع بين الدبلوماسية والمباشرة، دون أن يفرّط في ثوابت الموقف الرسمي.

الناطق السياسي: وزير أم مفكر للدولة؟

لم يكن سيدي محمد ولد محم مجرد “متحدث باسم الحكومة”، بل كان صاحب فكر سياسي واضح ينعكس في تصريحاته. وكثيرًا ما حوّل منصات النطق إلى فرص للتنظير في قضايا الديمقراطية، والحوار الوطني، والوحدة الاجتماعية.

بل ذهب البعض إلى القول إنه كان، في بعض اللحظات، ينطق باسم “فكرة الدولة” أكثر من مجرد الحكومة القائمة، وذلك عندما كان يتحدث عن سيادة البلد، أو وحدة ترابه، أو ضرورة احترام المؤسسات، وهو ما منح منصب “الناطق الرسمي” في عهده بعدًا أكثر عمقًا مما هو متعارف عليه عادة.

التحديات والمآخذ: صرامة أحيانًا تُقرأ كتحفظ

رغم التقدير الكبير لأدائه، واجه ولد محم بعض الانتقادات، خاصة من الإعلام المستقل والمعارضة، حيث رأى بعضهم أن صرامته اللغوية كانت تخفي تحفظًا أو حذرًا مفرطًا، خاصة في القضايا التي كانت تتطلب موقفًا إنسانيًا أو أخلاقيًا أكثر من موقف سياسي.

لكن مناصريه اعتبروا أن هذه الصرامة كانت ضرورة لحماية الصورة السيادية للدولة، وتفادي الانزلاق في متاهات السجال الشعبوي.

شكلت فترة سيدي محمد ولد محم كناطق رسمي باسم الحكومة واحدة من أبرز مراحل الأداء الوزاري في موريتانيا من حيث المهنية والانضباط الخطابي. فقد استطاع أن يكون صوتًا واضحًا لحكومة تواجه ضغوطًا متعددة، وأن يحافظ على رصانة الكلمة وسط صخب المواقف.

ويظل نموذجه في النطق الرسمي جديرًا بالدراسة، في بلد يتعطش لمزيد من الاحترافية في التواصل المؤسسي، داخليًا وخارجيًا.

إدارة ميناء نواكشوط المستقل: نموذج في الحوكمة الفنية

بعد تجربته السياسية، تولى سيدي محمد ولد محم إدارة ميناء نواكشوط المستقل، وهو من أبرز المرافق الاقتصادية في البلاد. وقد اتسمت مقاربته الإدارية هناك بالتركيز على الفعالية والمؤسسية بدلًا من الشخصنة والتسييس.

بخلاف الطابع السياسي الذي طبع مسيرته السابقة، تعامل ولد محم مع إدارة الميناء بأسلوب تقني صارم، يهدف إلى تحسين أداء المرفق، رفع وتيرة الشفافية، ومحاربة الهدر والفساد الإداري. ويلاحظ متابعون أن إدارته شهدت محاولات جادة لإعادة تنظيم البنية التحتية وتطوير الإجراءات الجمركية وتحسين العلاقات مع الشركاء الدوليين، في إطار رؤية اقتصادية شمولية تسعى لجعل الميناء مركزًا لوجستيًا إقليميًا أكثر تنافسية.

وقد شدد مرارًا في خطاباته الإدارية على أهمية استقلالية المؤسسات العمومية عن التجاذبات السياسية، مؤكدًا أن التنمية تحتاج إلى “عقل إداري نزيه” أكثر من “حسابات سياسية ظرفية”.

الدمج بين السياسي والتقني

ما يميز تجربة سيدي محمد ولد محم هو قدرته على الانتقال من المجال السياسي إلى الإداري بسلاسة، مع الحفاظ على قدر من الاستقلالية الفكرية التي تميّز بها. فعلى الرغم من خلفيته السياسية، لم يسعَ إلى تسييس الميناء، بل قدم نموذجًا لمسؤول يعرف كيف يقرأ الظرف، ويوظف الأدوات المناسبة لخدمة المصلحة العامة.

بين الخطاب السياسي المعتدل الذي طبع فترته الحزبية، والإدارة الفنية المنضبطة في الميناء، يقدم سيدي محمد ولد محم مثالًا نادرًا في السياق الموريتاني لمسؤول استطاع التوفيق بين مقتضيات السياسة ومطالب التنمية. وقد تظل تجربته محل اهتمام في أي تقييم جاد لمسار المؤسسات العامة والسياسية في موريتانيا خلال العقدين الأخيرين.

_____

بقلم: محمد الأمين عرفه