القبيلة العربية بين الواقع والتاريخ/الطيب ولد سيد أحمد

اثنين, 29/07/2024 - 09:43

  القبيلة معطى اجتماعي ؛ عابر للزمان والمكان ؛ عرفته شعوب الأرض منذ فجر التاريخ؛ ومازالت جذوره حية؛ تنـتـعش أحيانا وتذبل أخري حسب معطيات الواقع.

فهي تطور ونماء تراكمي للأسرة من الداخل وثراء لها من الخارج بالمصاهرة والخؤولة والتعصيب والولاء… ؛ وهي استجابة فطرية تـلقائية لتحديات الواقع الميداني والمحيط الخارجي .

 تعكس القبيلة صورة ما قبل الدولة؛ فهي أسرة كبرى ودولة صغرى؛ إنها كيان بدائي أولي اقتضته ظروف غياب سلطة مركزية تؤمن التعايش بين مكونات الوطن الواحد الذي يضم مجاميع بشرية متباينة المصالح؛ ثم استطاعت أن تتكيف وتتعايش لاحقا مع السلطات المركزية في مختلف الأوطان والأزمان لدى قيامها .

   وهي بطبيعة نشأتها وتكوينها أقرب إلى المبادرة الحرة العفوية والاستحقاق الميداني منها إلى المنظمات والجمعيات المقـننة سلفا؛ ذلك أنها تتأسس غالبا على قاعدة المثـل الشعبي(الرجل يبني حلة والحلة لا تبني رجلا) لذلك تـتسمى بآل فلان أو بني فلان؛ أو ينسب إليها بإحدى صيغ النسب المختلفة الفصيحة أو اللهجية ؛ يتسع عدد أفراد القبائل عادة بحسب انفتاحها وجاذبيتها للهجرة الخارجية طبقا لمواثيق الشرف العرفية لديها؛ وهو أمر شائع ومألوف ولا غضاضة فيه .

  يكفي المهتم بهذا الشأن أن يعلم أن العرب المستعربة أو المتعربة هم ذرية إسماعيل بن إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام .

   أما العرب العاربة وهم القحطانيون( سكان اليمن وجنوب الجزيرة العربية) فهم العرب الأقحاح .

  إذ معلوم أن إبراهيم بن آزر عليه السلام الذي زكاه رب العزة بقوله:((إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين)) وابتهل إلى الله في الآية الكريمة قائلا(( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افـئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)) ليس عربيا؛ وإسماعيل ابنه كذلك بالضرورة؛ وهما من آثرهما الله برفع القواعد من بيته الحرام((وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم))وعهد إليهما بتطهيره للطائفين والعاكفين….((وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود))

وهاجر أم إسماعيل ليست عربية كذلك .

إنما ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ كانت لأم عربية فتعربوا ؛ وهم من عرفوا بالعرب العدنانيين(سكان شمال الجزيرة العربية) الذين انتهى إليهم مجد العرب ممثـلين في قريش الذين اصطفى الله منهم صفوة خلقه وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ففي الحديث الصحيح :<<إن الله اصطفى كنانة  من ولد إسماعيل؛ واصطفى  قريشا من كنانة؛ واصطفى من قريش بني هاشم؛ واصطفاني من بني هاشم>> ونزل القرآن على حرفهم(( هو الذي بعــث في الأميين رسولا منهم يتــلو عليهم وآياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) .

ذلك ما يؤكد حقيقة أن اللغة هوية مستقـلة عن النسب غير مفتقرة إليه(إنما العربية اللسان…) حديث .

   أما وقد ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية مـد بجا بالقرآن الكريم؛ الذي هو أفصح نص عربي سمعته العرب أو نطقته لحد الإعجاز؛ يتضمن عقيدة فكرية تدعو إلى التدبر والتعقل والاعتبار؛ وشريعة عملية سمحة تنظم العلاقات البيئية؛ بين الإنسان وخالقه؛ وبينه وبين محيطه الخارجي؛ وخارطة طريق للحياة الدنيا واضحة المعالم[ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك]؛ تـفضي إلى أخرى هي دار القرار الأبدي(( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا)) (( يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه …)).

وعمت دعوته شبه الجزيرة العربية واستقـطبت كافة شعوب الأرض التي بلغـتها؛ ومع ذلك لم ير في القبيلة ضيرا؛ بل اعتبرها وسيلة تعارف؛ حيث ظلت قريش قبيلة ينسب إليها وظلت تميم كذلك؛ وهكذا سائر القبائل والشعوب: هذا فلان القرشي وذاك التميمي أو الفارسي أو الحبشي أو الرومي ….. إنما الجديد أن الجميع أسلم أمره لله فبات إخوة فيه وجزءا من كيان مركزي تغمره العدالة وتهنأ مكوناته بالتكافؤ في الحقوق والإيثار في العلاقات العامة:<< لا فضل فيه لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بتـقوى الله>>.

إذ العدل في الرعية من أهم أسـرار التناغم ةوالإيثار المغاضبين إلى السعادة والرخاء .

  أما القبيلة نفسها فهي كتلة اجتماعية نواتها نسبية كما أسلفنا؛ وأما قياداتها ومراكز النفوذ فيها فليست بالضرورة كذلك دائما بل هي خاضعة للتفاعل والسجال البيني .

ولعل أبرز التحديات الخارجية التي تؤرق القبيلة تتمثل في الذب عن حياضها وتأمين مصالحها وأمجادها؛ فهي هوية وذمة كما الدولة بل هي أخص لا سيما في مجال العرض والشرف والدية

   ….هكذا كانت القبيلة وما تزال تتأرجح حسب البيئات والأوضاع السياسية .

  تلك المشاغل هي التي عبر عنها شاعر الحكمة زهير بن أبي سلمى( المزني المضري) بقوله :

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ** يهدم ….

أما عجز هذا البيت فتضمن شططا جاهليا لا تقره شريعة ولا قانون …

  …… ومن لا يظلم الناس يظلم .

بل لعله يكون من قبيل الأمن الوقائي في غياب الشريعة والقانون .

ومن يجعل المعروف من دون عرضــــــــــــه ** يفره  ومن لا يتق الشتم يشتم

ومن يوف لا يذمم  ومن يهد قلبه ** إلى مطمئن البر لا يتجمجم

ومن يجعـل المعـروف في غـير أهلـــــــه** يكن حمده ذما عــليه وينـدم       

ومن لا يصانع في أمور كثيــــرة** يــضرس بـأنياب ويوطأ بمنسم

فمتى وجد ذلك القائد الملهم الذي يتمتع بمكانيزما القيادة في وسط ما؛ أسرة كان أو قبيلة أو شعبا ولو متعدد الأعراق والألسنة هرع الناس إليه وتحلقوا حوله خوفا أو طمعا أو هما معا؛ لا سيما إذا تعلق الأمر بالبيئات المضطربة التي يسودها السلب والنهب والناس فيها بحاجة ماسة إلى منعة يركنون إليها لتأمين أنفسهم وأموالهم؛ وقد يكون الأقربون آخر من يسلمونه قيادتهم لعامل المنافسة الفطري بين أبناء العمومة .

مثـلنا فيما نتحدث عنه هو القبيلة في شبه الجزيرة العربية قديما وبلاد شنقيط لاحقا.

  أما مكانة الفرد في هذا الوسط المضطرب فهي رهن بكسبه سلبا وإيجابا؛ صعودا وهبوطا خلودا؛ أو خمولا؛ وسواء أكان ذلك الكسب علما وحكمة؛ أو شجاعة أو إقداما ؛ أو كرما في ثراء؛ أو هذه الخصال مجتمعة؛ والأمثـلة من التاريخ على ذلك كثيرة قديما وحديثا؛ لا سبيل إلى استعراضها هنا .

لكن الأمر ليس ضربة لازب؛ فليس هناك حكم أبدي بالدونية ولا بالتفوق المطلق لأي أحد …

(( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)) .

قال الراجز :

نفس عصام سودت عصاما ** وعلمته الكر والإقـداما

وصـيرته ملكـــــــا هـــــــمامــــــــــــــا ** حتى عـلا وجاوز الأقــواما

البيتان ينسبان للنابغة الذبياني .

ومن شعر ابن الرومي الذي سار سير المثـل قوله:

قالوا أبو الصـقـر من شيبان قـلت لهم ** كلا لعمـري ولكن منـه شيـبان

فكـم أب قـد علا بابن ذرا شــرف **كما عـلا برسول الله عـدنان

تسموا الرجال بآباء وآونــــــــــــــــة ** تسموا الرجال بأبـناء وتزدان

بل إن عظام القادة يرفضون أن تنسب مآثرهم إلى الوراثة؛ لأنهم يرون ذلك انتقاصا من أدائهم ؛ وذلك ما عبر عنه بجلاء عامر بن الطفيل العامري الهوازني بقوله:

وإني وإن كنت ابن فارس عـامر ** وفي السر منها والصريح المهذب

فما سودتني عامر عن وراثــة ** أبى الله أن اسمو بأم ولا أب

ولكـنـني أحمى حماها واتـقي ** أذاها وأرمي من رماهــا بمنكـب

وفي هذا السياق يأتي قول شاعر النهضة العراقي البارز معروف الرصافي :

فـشـر العـالمين ذوو خـمول ** إذا فاخرتهم ذكـروا الجـدودا

وخـيـر الناس ذو حســب قـديم ** أقـــــــــــــــام لنـفسه حسـبا جديدا

فـذرني والفـخار بمجد قـــــــــوم ** مضى الزمـن القـديم بهم حميـدا

قـد ابتسمت وجوه الدهـر بيـضــا ** لــــــهـم ورأينــــــنا فعـبسن ســودا

وقال العلامة محمدي ولد سيد عبد الله الملقب بدي العلوي موجها ومربيا تلميذه ابن أختـه ونجل شيخه؛ محمدو ولد الشيخ محمد الحافظ العلوي إمام الطريقة التجانية الحافظية :

إن السيادة في اثـنـتين فلا تكـن ** يا ابن المشائخ فيهما بالزاهـد

حمـلِ المشـقة واحتمالِ أذى الورى** لــــــــيس المشمر للعلى كالقـاعـد

قـل للذي طـلب العلى بسواهما ** هيهـات تضرب في حديد بارد

فمن جد وجد ومن زرع حصد؛ لذلك نرى مراكز الثـقل والقيادة في سائر المجتمعات متحولة وغير ثابتة البتة؛ تلك سنة الله في خلقه(( وتـلك الأيام نداولها بين الناس))؛<< ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه>> حديث صحيح .

أقر القرآن القبيلة إذن؛ ولكنه وضعها في سياقها الايجابي(( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعـلناكم شعوبا وقبـائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)) .

فأكثر القبائل نبلا وانسجاما مع وظيفتها الاجتماعية الموضوعية هي تـلك التي تمثـل عامل تعارف وتعايش في وسطها وجوارها لا عامل صدام وتغول على غيرها من أترابها وجيرانها؛ ومن سلطات مركزية؛ وإنما رافعة وحاضنة لمنتسبيها وظهيرا يكلأ الجميع ويسددهم بل الأجدر بها أن تـشكل فضاء فسيحا للتنافس الايجابي بين ذويها في المحامد والمثـل النبـيـلة .

وهنا يبرز دور القدوة الحسنة والاستعداد الفطري والتربية الصالحة في تنمية الأجيال والدفع بها إلى مظان الصدارة ؛ يقول حاتم الطائي مخاطبا زوجته :

أيا ابنة عــــبد الله وابنـــــة مـــــــالك ** ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردي

إذا ما صنعـت الزاد فالتمسي له ** أكــيـلا فإنـــــي لست آكله وحـد

أخا طارقا أو جار بيـت  فإنـــــــني **  أخاف مذمات الأحاديث من بعـدي

وإني لعـبد الضيف مــــــــــادام ثاويــا ** وما في إلا تــلك من شيـمة العـبـد

فحاتـم هذا هو من خـلد ذكره وذكر قومه بمآثره الفاضلة قبـل14   قرنا؛ من الزمن ومازال مضرب مثـل في النبل والكرم؛ رغم جاهليته .

وهكذا أشاح عـنترة بن شداد العبسي عن هويته الحقيقية كبطل وسيد عانى الغبن في صغره فترجم مأساته بطولة وحكمة وعفة وحماسة وحلما مطّـرحّا العُـقـد جانبا؛ بل سطر تلك القيم في روائع شعره ؛ فهو القائل :

لا يحمل الحقـد من تعـلو به الرتب ** ولا ينال العلا من طبعـه الغـضب

ومن يـكن عـبد قوم لا يخالفهم ** إذا جـفـــــــوه ويسترضي إذا عـتـبوا

قد كنت فيما مضى أرعى جمالهم ** واليوم أحمي حماهم كلما نكبوا

لئن يعيـبوا سوادي فهو لي نسب ** يوم النزال إذا ما فاتني النسب

وهو القائل :

هلا سألت الخيل يابــــــــنة مالك ** إن كنت جـاهلة بما لم تعـلمي

يخبرك من شهـد الوقيـعـة أنني **أغشى الوغي وأعف عند المغنم

ومدجج كـره الكماة نـزالــــه ** لا ممعـن هربـا ولا مستسلم

جادت له كفي بعاجـل طعـنة ** بمثـــــقـــف صدق الكعوب مقوم

فتركته جزر السباع ينـشـنه ** يقضمـن حسن بنانه والمعصم

لذا أطلق الإمام الشافعي مسلمته الذهبية مضاءة بتوجيهاته التي رسم فيها مدارج السيادة لمن يتطلع إليها حيث قال:

المرء يعـرف في الأنام بفعـله ** وخصائل المرء الكريم كأصـله

اصبر على حلو الزمان ومره ** واعلم بأن الله بالغ أمره

لا تستـغيب فتستغاب لربما ** من قال شيئا قيـل فيه بمثــله

وتجنب الفحشـاء لا تنـطق بها ** ما دمت في جـد الحـديث وهزله

كم عالم متفضل قد سـبـه ** من لا يساوي غرزة في نعــله

في الجو مكتوب على صحف الهوى ** من يفعـل المعروف يجـز بمــثـله

وعلى كل  يبقي التعميم في الظواهر الاجتماعية غير وارد حيث يعوزه الانضباط والاطراد .

  لا جرم أن قبائل بعينها خـلدت مآثـر عبر التاريخ لم يحزها غيرها؛ وتألق أفراد دون آخرين من أبناء جـلدتهم ؛ وسادت أسر على أخرى؛ لكن ذلك لا يكون غالبا هبة ولا منة من المجتمع بقدر ما هو تميز في الأداء والسلوك بوأها تـلك المكانة التي تقاصر دونها الغـير .

    ومن أراد اللحاق بالركب فليشـد الأحزمة ويحث الخطى ؛فمن سار على الدرب وصل: (( إن الله لا يغـير ما بقوم حتي يغـيروا ما بأنفسهم)) .