أتعجب أحياناً مِن ذلك اليقين الراسخ الذي يبديه البعض حول أصوله النسَبية البعيدة، رغم أن أقدم شجرات النسب المكتوبة في بلادنا لا يزيد عمرها عن 200 إلى 300 سنة خلت. وفي الحواضر العربية العريقة الكبرى، مثل بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان، توجد منذ حوالي 1300 سنة سجلاتٌ للشرفاء محفوظة بعناية، ولهم مجالس ونقابات تُعنى بتسجيل نسماتهم وتقييد الولادات والوفيات منهم.. ومع ذلك تُثار شكوكٌ كثيرة حول أنساب البعض من العوائل والشخصيات الشريفة هناك! وإذا كان الأمر على هذا الحال بالنسبة لتلك الحواضر الكبرى، فما بالنا بهذه الصحراء المنقطعة عن الحضارة وبقاطنيها من البدو الرُّحل، وقد مر عليها ما مرَّ مِن قلاقل وفوضى وحقب غامضة لا تتوفر عنها أي معلومات مكتوبة؟!
ولنتساءل في هذا لخصوص: هل كان العالم والشاعر محمد ولد عينينا أكثر منَّا وعياً نقدياً بهذه الحقيقة التاريخية حين قال:
والحق أن الورى في القِطرِ أجمَعهِم* * أنـسـابهم ذهـبت إذ أهلها ذهبـوا
لم يبــق إلا روايـات يقـلـدهـــا ** بـعـض وبـعـض عـن التقـليد مجتـــنب
ويُنقل عن الشنافي، علامة الصحراء (رحمه الله تعالى)، أنه كان يَعتبر مبحثَ الأنساب أتفه مباحث التاريخ وأقلها أهمية، ليس فقط لأنه يفتقر إلى حقائق صلبة يمكن الركون إليها، ولكن أيضاً لأنْ لا شيء يترتب عليه في مجتمع حديث تنتمظه دولة وطنية ومؤسسات مدنية عصرية. ورغم كل ذلك نجد اليوم نُخباً حداثيةً تفرغ جهدَها في إثبات نَسَبٍ لهؤلاء ونفيه عن أولئك، وكأنهم يبتكرون حلولا شافيةً لمعضلات وقتنا؛ أي البطالة والفقر والغلاء وتفشي الفساد!