حضرت بدعوة مشكورة من الزعيم السياسي جميل ولد منصور حفل الإعلان عن تيار "من أجل موريتانيا"، الذي قال ولد منصور في خطابه الرائع الذي تجلت فيه كل أبهته اللفظية أنه "يجمع بين روح المعارضة التي يتصف بها قدامى المعارضين للأنظمة، حيث لن يتوقفوا عن النقد و التمحيص و الاقتراح مع روح الموالاة لدى قدامى الداعمين للأنظمة الذين تعودوا الانسجام و الانضباط المذهبي" (رواية بالمعنى وليست بجواهر ألفاظ ولد منصور).
يبدو جليا تأثر ولد منصور في ذلك بتعريف أستاذه راشد الغنوشي للتطور بأنه الاحتفاظ بإنجازات الأوائل و العمل على إضافة الرصيد، وذلك حتى لا تصاب الأمة بفقدان الذاكرة و لا أيضا بالشيخوخة المبكرة. (مروي أيضاً بالمعنى)..
يجمع التيار شخصيات لها تاريخها السياسي الحافل، و لبعضها ذكاء و دهاء لايشق له غبار.. كما أن من بينهم شباباً لا يزال يتلمس طريقه في مجاهل السياسة، باحثاً عن أقصر مهايعها و أقلها مشقة، مؤثراً الحد الذي يعرّفها بأنها "فن الممكن"، لذلك يرى أن التعلق بأذيال أمثال جميل ولد منصور و محمد فال ولد بلّال قد يوفر عليه الخوض في بحر متلاطم الأمواج، أو المرور من صفاصف جرادء و فيافي يتيه بها القطا مرّ بها قبله جميل وولد بلاّل، أيام كان ثمن الخلاف سجناً و جلداً وكياً بأعقاب السجائر.
يجمع التيار الجديد بين الضب و النون.. و ينظم في سموطه بين مختلف التيارات الفكرية و الاديولوجية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. و يجهر بالإعلان عن دعم الرئيس محمد ولد الغزواني غير موارب و لامقدما رجلا أو مؤخراً أخرى.. و قد تكون لذلك منافع على ولد الغزواني ونظامه:
يوحد هذا التيار القوى السياسية المتنازعة و المتباينة تحت راية واحدة، و يصهرها في بوتقة يذوب فيها التمايز الفكري و التباين الايديولوجي، من أجل هدف واحد هو دعم "رئيس الجمهورية" في وجه انتخابات رئاسية على الأبواب.
يحقق هذا الائتلاف بين نوازع المشارب السياسية استقراراً سياسياً للرئيس غزواني، حيث سيتمكن خلال شهر عسل التيار (قبل ظهور الخلافات فيه) من التأليف بين الماء و النار، مما سيمنح ولد الغزواني جهودا موحدة لدعمه في الرئاسيات و لتنفيذ سياساته، و حين تبدأ الخلافات في الظهور (عند تقاسم الكعكة غالباً) يكون الرئيس قد وصل بالرشاء للماء في قعر البئر ومتح منها ما أرواه من نميرها، ولم يعد يهمه أن ينقطع.. فهو الرابح في النهاية.
من إيجابيات التيارات السياسية المتنوعة في اتجاهاتها المذهبية إثراء الحوارات بتقديم وجهات نظر مختلفة للنقاش و التبادل. و تعميق التحليل باستيعاب كل الزوايا و المناحي النظرية، بشكل أكمل و أشمل، وبتقديم وجهات نظر متعددة.
سيساعد هذا التيار الرئيس غزواني في تسهيل عملية صنع القرار، حيث سيحظى بدعم تيار قوي، بتباينه و انسجامه (و إن مؤقتاً) مما يمكنه من اتخاذ قرارات أسرع و أكثر فعالية.
من السلبي في مثل هذه التيارات، أنها تولد وهو تحمل معها بذور انشقاقها وتشرذمها، بسبب الاختلاف الجوهري في الفلسفات و المبادىء و المراجع الأساسية، مما ستنشأ عنه، بالضرورة، خلافات في الرؤى تعطل عملية التوافق في اتخاذ القرارات، و تؤدي لصعوبة تحقيق الوحدة و التوافق الداخلي، فيخفض تعذر اتخاذ قرار نهائي أو توجه واحد من فعالية التأثير و أمكانية تنفيذ استراتيجية سياسية ناجعة.
ربما، يكون التحليل الذي ستتخلف بسببه هذه القاعدة هو أن يقول القائل: إن الشخصيات المؤلفة للتيار أصبحت منزوعة الدسم الإيديولوجي، فلم تعد تتبنى فكرها و لا تؤمن بمرجعياتها المذهبية التي ارتوت من ضرعها أيام حماس الشبيبة و اندفاعها، فلم يعد جميل ذاك الإخواني و لا محمدفال ذاك الكادح، و لا ولد الزحاف ذاك الحر.. بل أصبح كل واحد منهم "سياسياً موريتانيا" أو بعبارة أخرى
"opportuniste"
الناظم و المشترك الوحيد، في نظري، لأعضاء التيار هو دعم الرئيس غزواني، أما الحديث الذي ينطف عسلاً عن الوحدة الوطنية و مقترحات الخروج من عنق الزجاجة فليس سوى كلام معاد وثرثرة ممجوجة، لا يطابق فيه الفعل القول، و لايواكب العمل العلم..
يبدو أن دهاء ولد منصور السياسي بدأ يدفعه على أرجوحة برغماتية، وهي مرحلة طبيعية في حياة كل سياسي طفقت الشيخوخة تدب في أوصاله، ويغزو الذبول حديقة أزاهيره الفكرية التي ألقت عليها شمس الواقع أشعتها الحارقة، فرأى أن يُعاقِب بين مطيتين: المعارضة الناصحة و الموالاة الناطحة..
و يبقى السؤال الحائر هو: ما الذي يدفع مناضلا مثل ولد منصور قارع جميع الأنظمة، من أجل قناعات حالمة بإصلاح العالم، و عاش يعتقد أنه الديك منفوش الريش الذي لن يصحو الكون ما لم يصح في وجهه مطلع كل فجر، لأن يدعم رئيسا لم يشاركه في شيء من قناعاته و لا مبادئه و لاطموحاته و لا أحلامه ومشاريعه السياسية..؟.. هل هو استسلام لموازين القوى؟ أم أن الرجل تعب من مواصلة أكل الخبز الأسود، فلم يعد يرضى من الغنيمة بغير الإياب..
لقد تعب.. اطفئوا النور يريد أن ينام.. يريد أن يريح و أن يستريح…