في أواخر ستينيات القرن الماضي، درجت لأكثر من سنة على أن أسند تنظيف ملابسي لمغسلة "بِلال" في وسط مدينة G بالعاصمة نواكشوط. وهي مغسلة متواضعة تتكون من غرفة صغيرة - حوالي 3 أمتار في 4 - مغطاة بالزنك، وبداخلها طاولة خشبية بيضاء وفرشة إسفنجية و قماش. وفي الزوايا مواعين شاي بالية، ومكواة، وشموع، ومصباح. وخلف الغرفة حبل مشدود على دعائم يبلغ ارتفاعها مترًا ونصف الميتر تقريبًا، وكيسًا من الفحم، وبرميل ماء.
وقد شدَّني هذا المحل باسمه "بِلال" وجودة عمله وكثرة زواره. لا يخلو المكان ساعة نهار من مجلس هادئ ولطيف من أقارب بِلال وقومه. كما جذبني الرجل باحترامه لي وتقديره وترحيبه مبتسما كلما ولجت محله. وفي كثير من الأحيان، كنت أتساءل عن لِماذا يعاملني بكل هذا الإحترام والتقدير، وهو يعلم بأنَّ فعله لا يجد طريقاً لجيبي الخاوية، ولا لروحي الممتلئة بالثقافة الاستعلائية البِدائية. كنت دائما أنظر إليه نظرة دونيّة، وأعتبر كل ما يقدمه لي من ترفيه وتدليل هو حقي الطبيعي.
في ذلك التاريخ، كنتُ ضحية من ضحايا ثقافة الإعتداد بالذَّات البليدة والتعالي على الغير؛ ثقافة - أو على الأصح حماقة - أودعتها الإقطاعية الظلامية في نفسي بألوان ومكونات شتَّي، دونما فعل مني ولا جهد. كنت أنظر لنفسي ولبعض الناس بأننا ولدنا عظماء و كرماء حتى وإن كنا بخلاء. و وُلدنا أجلاّء وشرفاء حتى وإن كنا أوغادا وجهلاء.
داومت على زيارة ذلك الغسال لأكثر من سنة، دونما أن تجد أخلاقه الرفيعة ومعاملاته اللطيفة أيِّ تقدير مني، حتى دعاني ذات يوم لحضور عقد قران ابنت أخيه. ترددت بادئ الأمر ظنَّاً مِنِّي أنَّ له حاجة عندي ويريد أن يغلفها ببعض المقدمات، ولكنني في النهاية وبعد إلحاح منه وعدته بالمجيئ، وكنت غير مهتم بالإيفاء بوعدي، ولكنَّ رغبتي الفضولية في معرفة كيف يكون الزواج في بيت "غسال" جعلتني أُلَبِي الزيارة.
رافقني أحد أفراد أسرته من محل المغسلة إلى كوخ صغير قرب مدرسة "العدل" في مدينة 3. دخلت على الجماعة وفي نفسي كبر وعجب. وما إن جلست حتى بدأ فريق من الشباب يغني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم بصوت رائع وجميل لم أسمعه حتى في غِناء سيداتي. غنوا مقاطع من "البردة"، وأبيات من"بانت سعادُ".. ثم إنتقلوا لِلغَناء بالحسانية. فغنّوا " ألاّ أنا ونّي بالرّسول"!
حد إدور اطفل من لعرب
أراعيلُ ذا اطفل مصگول
ولد ابْنِ عبد المطّلب
محمد الامين المرسول
وغنَّوا : ونيّ، ونّي، ونّي حتّ
أنا ما نبغي كون أنتَ
محمد يا مول الكمال
يا الِّ ما نبغُوا كون أنتَ
والله ألّ نبغوك اگْبال
إيلَ مَا لاَ نِهايَةَ
غنوا بهذا كله وأنا حائرٌ وهائمٌ بينهم، ثمَّ حضر بلال مع رجال من كبراء الحي. انتهى الغناء فورا. وخيّم الهدوء. و بدأت فعاليات عقد القِران التي أشرف عليها بِلال بنفسه في خشوع و مهابة و وقار . بدأ بالاستعاذة من الشيطان الرحيم، ثم آيات بيّنات من القرآن الكريم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا. ثم تناول أحكام النكاح بالعربية الفصحى. كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت بأنَّ غسال ملابسي، متضلع من كتاب الله، وعلوم الحديث، ومختصر الشيخ خليل. أخبروني بأنه تلقى تعليمه في محظرة عتيقة بمقاطعة باركيول. وجاء إلى العاصمة في الخامسة والثلاثين من عمره طلبا للشغل، ولم يجد شيئا. اعتمد على نفسه، وقرر افتتاح "مغسلة" لاكتساب قوت عياله! فكّرتُ مليّا واحترتُ في قدرته على تقبّل أقدار الحياة والتكيّف مع ظروفها العجيبة.
تعرفت على أفراد أسرته. الزوجة تقترض "الملاحف" من تجار وتبيعها مقابل ربح ضئيل، والبنت 9 سنوات تعمل (حكّامة) لدى عائلة ميسورة في حي K بالعاصمة مقابل راتب زهيد، والطفل "محمود" (6 سنوات) يقرأ القرآن مع جده في قرية "الغبرة".
ومنذ ذلك الحين، بدأت أنزل من برجي العالي و أراجع نفسي و أفعالي. بدأت أخلع ثوب الأمجاد المتخيلة التي منعتني من أن أكون إنسانا صالحا ومهذَّبا ومتواضعا مع أبناء البشرية كافّة بصرف النظر عن أصولهم وفروعهم ولون بشرتهم، وبالأحرى أبناء وطني. بدأت أتحرر من دائرة العنصرية والقبلية والجهوية وعزة النفس التي ملؤها الغرور والجهل والغباء.
شكراً لك أخي بِلال علي ذلك الجمال والسمو والتواضع الذي ساعدتني به على فهم وإدراك الحقيقة. وشكرا لك على غسل ملابسي بإتقان و صقل نفسي من التكبر والخَيلاء. وشكرا لك على أن علمتني أن الإنسان لا يسمو بسلطانه ولا بمظهره ولونه، لكنه يسمو بجوهره وفضائله. والشكر موصول لكل عظيم في ثوب متواضع "مصقول".