«ناتالي يامب»، إعلامية كامرونية واسعة الحضور في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد خصصت أبرز تعليقاتها في الآونة الأخيرة للانقلابات العسكرية المتتالية في الساحة الإفريقية، معتبرةً أنها بدايةَ عصر التحرر الأفريقي من الهيمنة الغربية (الفرنسية على الأخص) التي استمرت حسب رأيها رغم الاستقلال الشكلي لدول القارة.
ما تقوله «يامب» هو بالضبط مضمون الخطاب السياسي للنخب العسكرية والسياسية الإفريقية التي احتلت واجهة الأحداث في الفترة الماضية، مما حدا بالبعض إلى الحديث عن «الربيع الأفريقي» الجديد الذي أخذ شكلَ الانقلابات العسكرية بدلاً من الثورات والانتفاضات الشعبية التي حدثت في مناطق أخرى من العالم.
وفي هذا السياق يتجدد الحوار الفكري حول طبيعة التجربة الديمقراطية التعددية في نسختها الغربية ومدى ملاءمتها للواقع الأفريقي. فالانقلابات الأخيرة كلها تمت ضد أنظمة مدنية منتخبة ديمقراطياً، ومنها حكومات ترأسها شخصياتٌ ليبرالية لها باع طويل في المعارضة الراديكالية (كما هو شأن ألفا كوندي في غينيا ومحمد بازوم في النيجر). بيد أن هذه الأنظمة فشلت في تحدي البناء التنموي والعدالة الاجتماعية، وانساق أغلبُها إلى كبح إمكانات التداول السلمي على السلطة من خلال التلاعب بالأحكام الدستورية ذات الصلة بعدد الولايات الرئاسية المشروعة.
ومن هنا السؤال المطروح حول الضوابط المؤسسية الضرورية لفاعلية النظام الديمقراطي في بلدان يختل فيها توازن السلطات لصالح الحاكم التنفيذي، مما يؤدي بالبعض إلى اعتبار المؤسسة العسكرية القوة الوحيدةَ الضامنة لحسن سير البنيات الديمقراطية، ومن ثم تسويغَ شرعية تدخلها لإخراج البلدان من مأزق انسداد الحقل السياسي وانغلاقه.
وفق هذه الرؤية، يتحمل الغربُ مسؤولية هذه النظم الديمقراطية المختلة التي هي الإطار الجديد لتأمين التحكم في مركز القرار وفي السياسات العمومية للدول الأفريقية. وكما كان الزعيم الفرنسي الراحل الجنرال ديغول قد طرح في سنة 1944 فكرة الاتحاد الفرنسي الإفريقي الذي أفضى لاحقاً إلى ما سمي بنقل الاختصاصات إلى حكومات مستقلة مع استمرار الروابط الخاصة بالمستعمر السابق، فإن الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران طرح على القادة الأفارقة في التسعينيات فكرةَ الانتقال الديمقراطي كشرط لاستمرارية الشراكة الفرنسية الأفريقية الخاصة. ما تقوله ناتالي يامب هو أن تغير المقاربات العملية لم يواكبه تحول في طبيعة النظرة الغربية إلى إفريقيا، هذه النظرة التي ما تزال نتاجاً لما كان الفيلسوف الكونغولي «فالنتين ايف ميدمبة» قد أطلق عليه «المكتبة الاستعمارية».
ما يعنيه ميدمبة بهذا المصطلح هو مجموع التمثلات والصور والمصادرات التي تشكلت من كتابات المستكشفين والرحالة وعلماء الاثنوغرافيا والمبشرين الدينيين والحكام الإداريين، وهي في عمومها تكرس النظرة الإقصائية إزاء الإفريقي من حيث هو الوجه السلبي للإنسان الأوروبي، ومن حيث هو الشخصية التي لم تَدخل التاريخَ ولم تعرف مسار التقدم الإنساني كما كان يقول الفيلسوف الألماني الشهير هيغل.
وفي كتابه الهام «اختراع أفريقيا» الصادر في الولايات المتحدة الأميركية عام 1988، يبين ميدمبة -على طريقة إدوارد سعيد في «الاستشراق»- أن «البنية الاستعمارية» تشمل السيطرةَ على الأرض والاستغلال الاقتصادي وإعادة قولبة العقل والوعي، بحيث لا يشكل الاستعمارُ مجردَ حدث تاريخي بل حالةً وجوديةً وابستمولوجيةً عميقةً لا تنفصل عن طبيعة الوعي الغربي نفسه، بمعنى الصورة التي شكّلها الغربُ عن نفسه واعتبر إفريقيا نقيضَها.
ما ينتج عن هذا النقد للتمثل الغربي للإنسان الإفريقي هو أن «الزنوجة» التي احتفى بها بعض رواد الحداثة الأفارقة هي في حقيقتها من نتاج المركزية الغربية. ذلك ما يبينه الفيلسوف الكامروني أشيل بمبة في كتابه «نقد العقل الزنجي»، معتبراً أن هذا المفهوم تَشكلَ من خلال الممارسات الاستعبادية الغربية التي حولت الإنسانَ الأفريقي إلى قوة عمل يدوية وبضاعة تجارية، قبل أن يتحول الإنسان كله في الثورة التقنية الراهنة إلى نمط من الزنجي المستعبد من الماكينة المروضة للأجسام الراغبة والمنتجة للمادة الإنسانية ذاتها بدلاً من المادة الطبيعية التي قامت عليها الثورة التقنية الصناعية الأولى.
كيف يمكن تطبيع وضع الإفريقي في الوعي الإنساني المشترك؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه بقوة المفكرون الأفارقة الجدد، ويكتسي في الساحة السياسية أبعاداً راهنةً ببروز الخطاب الشعبوي النقدي لدى النخب السياسية الداعمة للمشاريع الانقلابية العسكرية من حيث هي منعرج جديد في العلاقات الغربية الإفريقية ومَظهرُ طموحٍ جذري للتحرر من نماذج الحكم والتحديث الغربية.
د. السيد ولد الباه / أكاديمي موريتاني