قطعت جهيزة قول كل خطيب، واستلمت أسرة المرحوم جوب جثمانه، وسيطوى ملفه، ويضمد الزمن ما نكأت وفاته من جراح وما أحدثت من ألم ونقوش غائرة في جسد الإخاء الوطني.
خرج المئات من المراهقين الغاضبين، ليحرقوا البلد، ولولا فضل الله تعالى ويقظة رجال الأمن وصرامتهم ومهنيتهم لزلت أقدام إلى مستنقع لا تحمد عقباه ولا يعرف متى يخبو أواره.
لم يكن هنالك أي أساس يمكن أن تحمل عليه فرضية قتل الشرطة للمرحوم جوب، فحادثة الصوفي ولد الشين كان كفيلة بلجم أي تهور يمكن أن ينجر إليه فرد تحت وطأة الغضب أو لهب الاستفزاز، بل والاعتداء حتى.
ما لا يريد المحرضون قوله ولا سماعه
تظهر المعلومات الدقيقة التي يمكن للنخب وقادة الأحزاب السياسية وركاب الموجات الحصول عليها بسهولة لو أرادوا طريقا غير الإثارة، أن هنالك جانبا من الصورة تم التعتيم عليه بكل وضوح، فإذا تذكرنا حجم التشهير الذي تعرض له الشرطي المشتبه في إطلاقه النار على المرحوم محمد الأمين ولد صمب في بوكي، فإننا نتساءل لماذا لم يرد أي ذكر لاسم ضابط الشرطة المداوم في مفوضية السبخة والذي تولى القبض على المرحوم عمر جوب، ونقله إلى المفوضية في انتظار أن يصحو حيث كان ثملا أثناء القبض عليه
، سيكون الأمر طبيعيا في الممارسة والخطاب العنصري إذا عرفنا أن هذا الشرطي يشترك مع المرحوم جوب في الآصرة الاجتماعية وفي الانتماء إلى مدينة واحدة هي امبان، وأنه يعرف عمر جوب حق المعرفة، ويعرف أفراد أسرته واحدا تلو الآخر، وهم يعرفونه أيضا معرفة دقيقة ربما على طريقة المثل السنغالي " آستو خمنا بوليس/ بوليس خمنا آستو/ عائشة تعرف الشرطة والشرطة تعرف عائشة.
لا توجد كلمة واحدة ولا ذكر ولا حديث عن ضابط الصف انكاري حامد حمادي الرجل الأمني المتميز الذي قام بعمله بكل مهنية واحتراف، ولكن شفع له عند منظري الاضطراب، لونه واسمه وشريحته، فيما كانت ذات الصفات سببا في مهاجمة آخرين والنيل منهم والاعتداء على أجسادهم وممتلكاتهم في مناطق أخرى.
يغفل المحرضون معطى آخر بالغ الأهمية وقد اعترف به جوب ورفاقه الذين أوقفوا بعد ذلك، حيث جاء القبض عليه نتيجة بلاغ من مواطن طلب منه جوب ورفاقه مساعدتهم في دفع سيارتهم المتعطلة، وعندما اشتبه في وضعيتهم المريبة امتنع ليوجهوا له السباب الخبيث، حيث بادر بإبلاغ الشرطة، التي أوقفتهم في إجراء احترازي وطبيعي عند الإبلاغ عن حالات خطر أو اشتباه، وكانت النتيجة أن المعني كانت تحت وطأة المخدرات، وفق ما أثبتت التقرير الجنائي بعد ذلك
قصة العفو النبيل عن القاتل
رغم فوضى التشهير والشائعات والترويج وسيل المعلومات المغلوطة، يتجاهل المحرضون والغوغاء أن عمر جوب نال عفوا نبيلا وكريما من عجوز فقيرة تنتمي إلى شريحة الحراطين، ويسري في دمائها شرف الإيمان ونبل سكان تكانت الكرام، حينما قررت العفو عن جوب قاتل ابنها بعد أن حكم عليه بالإعدام قصاصا لتورطه في جريمة قتل ابنها وهي الوارث الوحيد له، فعفت عنه، ونال حكما بالسجن سنة نافذة ومئة جلدة.
ترى هل سيبحث أولئك الطيبون جدا والغارقون في بحر مشاعر التضامن عن تلك العجوز المكلومة ليقرأوا في تجاعيد وجهها قصة أخرى من نبل هذا المجتمع واستعصائه على إغراق الفتن والاشتعال العنصري
أصابع التحريض وألسنة الشائعات
كانت يد التحريض ولسان الشائعات والتثوير كان كفيلا بأن يطلق شرارة الحقد من أعماقها، وأن يفتح المجال لشذاذ من اللصوص ومن الأجانب لكي يعثيوا في مناطق متعددة من البلاد، وكأن كلمة سر عنيف كان تؤطر حراكهم الذي اتسم بلبوس عنصري وسلوك تخريبي ما تزال شواهده ماثلة.
كانت تظاهرات "الغضب الحائر" تمتد وتتوسع مع تصريحات وتدوينات وتحريض سياسيين وإعلاميين، جعلوا من "عدم التثبت" فرصة مناسبة للنيل من النظام والمجتمع وتعويض خسارة الانتخابات، بل لا يمكن أن تخفى المطامع الشخصية والمساعي الخاصة للانتقام، وكأنها فرصة غير معوضة لتفريغ الغضب والحنق، ترى ضد من، ضد صاحب دكان يقتات من عرق جبينه أو مؤسسة حكومية من مال الشعب ولخدمته، أو من احتراق سيارة شخصية لمواطن بسيط أو من ترويع آمنين لا ذنب لهم سوى أن القدر جعلهم في مرمى حنق لا هدف له سوى العنف.
لم يكترث هؤلاء المحرضون بالملف العدلي للراحل، وما يظهر من اتهامه في جريمة قتل سابقة، حتى يتريثوا قليلا، قبل أن يحولوه إلى بطل قومي وأيقونة "للحيف المجتمعي" بل تناسوا في غمرة الفرح بملف قابل للمتاجرة والتسويق والبيع داخليا وخارجيا
وفي مواجهة هذا المتغير الذي يستهدف الوطن والمواطن والدولة والأمن، عملت السلطة على حسم المواجهة في اتجاهات متعددة.
المسار الأمني من خلال التصدي السريع والصارم للشغب، وتوقيف المعتدين والمخربين من أجانب ومواطنين، ومنع موارد الشائعات عبر قطع الانترنت عن الهواتف المحمولة حماية للمواطنين من دفق الشائعات والأكاذيب والتحريض العنصري والفئوي
المسار العدلي: الذي انتهى بالتقرير الطبي الذي تابعته أسرة المتوفى جوب منذ بدايته إلى نهايته، وقطع جهيزته قول كل خطيب
المسار السياسي: الذي لم يرد على التحريض بمثله ولم يرد للبلد أن يدخل في سجال شرائحي ومجتمعي، وإلا فقد كان بالإمكان إظهار ونشر الطابع العنصري البغيض الذي أخذته الاحتجاجات، وإظهار حجم الأضرار التي تسبب فيها للأفراد والمنشآت.
لقد كانت المعالجة السياسية واعية جدا، ومدركة بأن الخطاب الوطني الجامع والمتكامل والحامي للوحدة الوطنية هو إطار مرجعي للسياسة العامة لموريتانيا وأن التهدئة السياسية في ظل قوة الدولة وأمنها واستقرارها خيار استيراتيجي لا تراجع عنه.
والآن بعد أن أفلست ورقة المتاجرة بالأحداث، وتحطم جسر العبور الغاضب على لهب التحريض، يتساءل الجميع؟
أي دافع سياسي وأي مصلحة فردية أو حزبية يمكن أن تدفع سياسيا ناشئا أو مخضرما أو مشرفا على التقاعد السياسي القسري أن يجعل من مواقفه وتصريحاته وقودا للهب قد يحرقه قبل أن يصل غيره.
ألا يستحق الوطن اليوم والحقيقة والقيم السياسية على أولئك المحرضين والذين تشبثوا بأوهام الشائعات وأولئك الذين راهنوا على غضب عابر وفورة شحن عنصرية أن يتقدموا إلى قواعدهم السياسية وإلى الشعب كله بالاعتذار.
أليس من الضرورة الآن الوصول إلى ميثاق شرق يمنع به السياسيون على أنفسهم الانجرار أمام سطوة الغوغاء وموجات العنصرية، ويجعلون فيه أمن المجتمع وقوة الدولة فوق كل اعتبار.
وختاما ...هل تعلمون أن دفن المرحوم جوب تم مع ساعات الصباح الأولى من يوم السبت 10/6/2023 في مقبرة الرياض في العاصمة نواكشوط، وكان من الغريب أن السياسيين والمدونين والنشطاء الذين جعلوا منه "بطلا قوميا وشهيد عنف أمني" غابوا عن حضور جنازته بشكل تام، فقد انتهى دورهم عند انتزاع فتيل الأزمة العارضة.
________
ريم آفريك..