الكيانات ما قبل الدولتية فى موريتانيا و مشروع الدولة الوطنية التحديثى من يؤثر فى من ؟

أحد, 26/01/2025 - 22:33
عبد الله الحر محمد صمب  باحث فى علم الإجتماع

هناك أحداث كثيرة تطرح تساؤلات عميقة حول مصير الأحكام النظرية المتعلقة بالتحول الاجتماعي وحضور الدولة الجامعة، وكذلك حول تبلور مفهوم الدولة الوطنية ومدى تفكك البنى التقليدية وانتشار نظام التحديث، أو بمعنى آخر حول تأثير هذه الكيانات ما قبل الدولتية على بناء وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية.
ولكن إذا نظرنا إلى التحديث في أوروبا الغربية حيث تبلور وتقلص إلى أبسط تعبيراته بحيث أصبح يتصف بكونه عملية تعبئة وتمايز وعلمنة (1) على لغة رايمون بودون وفراسوا بوريكو في كتابهما "المعجم النقدي لعلم الاجتماع" ولكن نجد أن في الحالة الموريتانية لم يتبلور المفهوم بعد كما هو عليه في مكان نشأته، مع الأخذ في الحسبان اختلاف البيئات الاجتماعية وطبيعة البنى الاجتماعية القائمة.
إن ما يدور لدى التحليل السطحي لتلك الأحداث من مفاجئات أو استثناءات في النظام الاجتماعي لا يجيب حقيقة عن الأسئلة السوسيولوجية العويصة التي تطرحها المعرفة الجادة ،في كتابه "سوسيوجيا القبيلة في المغرب العربي" يرى محمد نجيب أبو طالب أن إجراءات التغيير التي قامت بها الدول الوطنية لم تستطيع أن تلغي البنى القبلية وتفكيكها في كل المستويات، خصوصا على المستوى الثقافي والنفسي(2).
إن من تجليات حضور تدخل الدولة الوطنية التحديثي والعمل على تفكيك أسس المجتمع القبلي هو إصدار الدولة لقانون يجعل حول ملكية الدولة لكافة الأراضي الوطنية بمعنى احتفاء الإمارات التي كانت تحكم المجال الموريتاني قبل قيام الدولة الوطنية، وبطبيعة الحال لاشك أن ثمة بعض المظاهر التي توحي أو تؤكد استمرار البنى القبلية في تأدية وظائفها التقليدية وقد يكون السبب في ذلك هو أن القبيلة في موريتانيا هي كيان سابقٌ على الدولة، وبالتالي بعد قيام الدولة الوطنية حدث هناك ما يمكن أن نسميه نوع من التعايش الحذر بين القبيلة والدولة ذلك أن القبيلة والدولة بنيتين تنفي كل منهما شرعية الأخرى.
وفي كتابه "القبلية والدولة في إفريقيا" يرى عبد الودود ولد الشيخ إن تطور التفريعات الاجتماعية، المرتبطة بداهة بقضية السلطة تطرح أسئلة كثيرة وتذكي الإغراء ذاته بخصوص إقامة دولة تعارض بين "الأصيل" والمعاصر". وفي موريتانيا كغيرها من البلدان التي تكون فيها الدولة أساسا بمثابة نبتة خارجية موروثة عن الاستعمار، فإن الجهاز المركزي للسلطة لا يكون عامل هيمنة طبقية يأتي لإقرارها وشرعتنها، بقدر ما هو عامل إنشاء ترقية للكتل التوسعية التي تلد من رحمه(3).
وقد عمقت الدول الاستعمارية حسب عبد الودود ولد الشيخ بشكل متسارع الفجوات بين الحكومات والمحكومين بإدخالها أدوات إدارة بيروقراطية مركزية، مزودة بوسائل قمعية تكنولوجية وتنظيمية لا وجه للمقارنة بينها وبين وسائل السلطات المحلية القديمة، وقد أفضى الزرع المحكم لهذه النبتة إلى ظهور "نخبة" ملتحمة بالجسم الأجنبي للدولة الاستعمارية التي هي موئل لتراكم أفرز فجوة لا يسبر غورها، بدأت تتسع، منذ الحقبة الاستعمارية، بين "البيض السود" و "والسود – السود"، ويحدد مسار تشكيل هذه النخبة من خلال الجمع بين "استقطاب" جزء من الزعامات التقليدية "المؤمن ولاؤها" ومن تسميهم الإدارة الاستعمارية "بالمتورطين" وينحدرون من المدرسة الفرنسية ومن الطبقات الدنيا والمهيمنة(4)
ومن جهة ثانية يؤكد نجيب بوطالب في كتابه "سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي" إن النزعة القبلية يبلورها مسود في الفترات التي يتأزم فيها وجود القبيلة كمبنية اجتماعية، خصوصا حينما تحاصر تلك البنية ويصبح وجودها غير مرغوب فيه باعتبارها علامة من علامات المجتمع التقليدي، لذلك تتحرك النزعات القبلية باعتبارها تعبيرات عن الهويات المحاصرة، خصوصا حينما لا تكون البنى والهياكل البديلة قادرة على استيعاب الأفراد، ولا تنجح بتعبئتهم لصالحها، وتجد مخلفات النزعة القبيلة استمارايتها أيضا في النزاعات الجهوية (5)
وتتمثل أزمة الدولة الجامعة في موريتانيا، إذًا، في محاولة فرض نموذج الدولة الحديثة الذي لا يتماشى مع البُنى الاجتماعية التقليدية. وقد أسهمت مقاومة المجتمعات لهذا النموذج في وُجود شرخ أو غياب لعلاقة مباشرة بين الدولة والشعب، إذ بقيت الدولة مفروضة من الخارج ومرتبط تأثيرها بمصالح محدودة، بعيدًا عن الواقع الاجتماعي للمجتمع الموريتاني وما هو ضرورة أنه لا يمكن استنساخ التجارب الدولية وتطبيقها جملة على بلد آخر دون مراعاة اختلاف البيئات الاجتماعية المختلفة.
غالبا ما تتعرض دول العالم الثالث ومن بينها موريتانيا بطبيعة الحال لفرض نموذج التقدم الغربي الذي لا يتناسب مع بنياتها الثقافية والاجتماعية.
وهذا ما يفسر المقاومة التي تبديها تلك المجتمعات أمام محاولة التحديث، باعتبار أن هذه المجتمعات ترى في النموذج الغربي تناقضاً كبيرا مع تطلعاتها وواقعها وبناها الاجتماعية.
وكما هو معروف وقد عرجنا على ذلك في وقت سابق أن القبيلة كيان سبق نشوء الدولة الحديثة، ويمكن القول أنها ساعدت في تأسيسها، وحسب الكثيرين ستظل القبيلة في موريتانيا عنصرا مهما داخل الدولة حتى يتطور مفهوم الدولة ويتواءم متطلبات حداثة الدولة والمجتمع.
ولكن من ناحية أخرى يمكن القول إن روح الإمارات التي كانت تحكم المجال الموريتاني قبل قيام الدولة الوطنية مازالت حية وإن كانت هذه الإمارات قد اندملت بفعل قيام الدولة، وكمثال بسيط على وجود روح تلك الإمارات فإن أحد سكان بلدية شرقية وإن كان له الحق نظريا في الترشح من بلدية في شمال البلاد بوصفه مواطنا موريتانيا فإن المجتمع الأهلي أو المحلي لن يقبل ذلك بأي شكل من الأشكال. 
وبناءً وتأسيساً على تقدم، يمكن القول إن البُنى ما قبل الدولتية لعبت دورًا محوريًا في عرقلة ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة في موريتانيا، نظرًا لمقاومتها الثقافية لنموذج الدولة المفروض من الخارج. فقد شكّل النظام القبلي والزعامات الدينية عماد المجتمع الموريتاني التقليدي، مما جعل تقبل نموذج الدولة الحديثة أمرًا صعبًا، بل ومفارقًا لواقعه التاريخي والاجتماعي.
وقد حاولت الدولة الناشئة توظيف الزعامات التقليدية واستثمار شرعيتها لتحقيق الاستقرار السياسي، إلا أن هذه المحاولات ظلت محدودة التأثير. فقد تمكنت الزعامات التقليدية من الاحتفاظ بشرعية مستقلة جعلتها موازية ومتنافسة مع الهياكل السياسية الجديدة. وهذه الازدواجية أوجدت فجوة بين الدولة والمجتمع، حيث استمر النظر إلى الدولة ككيان فوقي خارجي يخدم مصالح نُخب معينة، دون أن يعبر عن تطلعات المجتمع أو يلبي احتياجاته. 
تبدوا سياسات الأب المؤسس المختار ولد داداه مصابة بنوع من الارتباك، ويتضح ذلك بشكل بيّن ذلك أنه من جهة يظهر وكأنه يؤمن بضرورة دخول الحداثة فكراً دون ضرورة أن دخولها تاريخاً فمثلا نجد ولد داداه يوظف البنى الاجتماعية التقليدية من أجل المساهمة في بناء الدولة الجامعة وجنده من جهة ثانية لا سيما فيما يتعلق بالاستراتيجيات الاقتصادية حيث يحاول المختار ولد داداه في أول استراتيجية تنموية وطنية التوجه نحو التصنيع وأدى هذا الوضع إلى تعميق الانفصال بين الدولة والمجتمع، مما أعاق بناء هوية وطنية مشتركة. 
وجاءت مقاومة المجتمع لنموذج الدولة الحديثة كنتيجة طبيعية لمعرفته للدولة من خلال أُنموذج مشوه وكذلك لتمسكه بالقيم والبُنى الاجتماعية التقليدية، التي اعتُبرت جزءً من هويته التاريخية. وهكذا، عانت الدولة الناشئة من غياب الشرعية الثقافية والاجتماعية إذا كاز التعبير، مما حال دون تحقيق اندماج حقيقي بين مكوناتها المختلفة.
_____________________
1) رايمون بودون و فراسوا بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع ، ترجمة سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ص، 148
2) محمد  نجيب بوطالب، سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص، 22
3) المرجع نفسه، ص، 24
4) عبد الودود ولد الشيخ، القبيلة والدولة في إفريقيا، ترجمة محمد بابا ولد أشفغ، سلسلة أوراق الجزيزة، ص،78-82
5) عبد الودود ولد الشيخ، القبيلة والدولة في إفريقيا، المرجع السابق، ص، 82
6) محمد نجيب بوطالب، سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي، مرجع سبق ذكره، ص64
الكاتب :عبد الله (الحر) محمد صمب - باحث في علم الاجتماع